المدونة

عودة لطفولة و بؤس المخيم (2)

الكاتب: جمال زقوت

بيتنا في مخيم الشاطئ كان عبارة عن غرفتين من “الكرميد” و ما يسمي بقاع الدار و مطبخ صغير كنا ستة أخوة و لم تكن شقيقتاي الهام و إنعام قد ولدا بعد و كذلك بهاء الذي ولد عام 74، لك أن تتخيل كوخاً لا تتجاوز مساحته 40 مربعا متراً، و يعيش فئة ثمانية أشخاص، الأبوين و سته أطفال أكبرهم بشير الذي لم يكن تجاوز الرابعة عشر و أصغرهم في حينه وليد و الذي كان عمره ربما عاماً واحداً أو عامين ، فطورنا الصباحي كان كاسة شاي و خبزة محمصة على النار و دقة و هي القمح المحمص و المطحون و المبهر مع السماق و الملح وحمض الليمون، ليس هذا هو المهم ، بل هذا البيت الكوخ الذي لا يوجد به مرحاض و لا حنفية مياه ، فالمراحيض في المخيم جماعية، و لكل “بلوك” يوجد مرحاضين أحدهم للذكور و لا أقول للرجال لأنه كان للرجال و الأولاد و مرحاض للإناث، و لنا أن نتخيل كيف يكون طابور انتظار دخول المرحاض صباحاً و أية إحراجات و ليس فقط أمراض يمكن ان تنتشر في مثل هذة البيئة غير النظيفة رغم أن عمال “السنتيشن” كما كنا نناديهم كانو ينطفونها يومياً ، أما المياه سواء للشرب او الطبيخ أو النظافة فكانت نساء المخيم تقوم يومياً بسحب ما تحتاجه الأسرة منها من “طرمبات” آبار المياه التي حفرت في أرجاء المخيم دون معالجة أو تنقية ، كن يملأن أجرار الفخار يومياً ، و أحياناً يساعدهن الصغار في نقل أباريق أو أجرار صغيرة و يجري ملئ الزير و هي وعاء فخاري كبير يتسع لعدة اجرار . في الحارة كانت دكان عيسى غبن و فرن أبو يوسف كُرّتْ، و جامع الشيخ موسى و لاحقاً دكان خضر و دكان أبو عدنان الطيبي الذي كانت تظلله شجرة كينيا ضخمة تحولت لملتقى رجال وشباب الحارة هي كل العناوين و العلامات المميزة لمخيم الشاطئ ، بالإضافة للبحر و شاطئه الذهبي في حينه قبل أن يتلوث بسياسات الاحتلال و مياه مجاري الانقسام، و هذه قصة بحد ذاتها سأتناول تفاصيلها لاحقاً.
كان عشيش الذي يساعد الناس على حمل اكياس الطحين و السيرج و البقوليات و معلبات السردين التي توزعها وكالة الغوث ، عشيش هذا استحوذ على أرض تائهة بين البيوت و هو الوحيد الذي كان له حديقة كسراديب سرية يبدو انه كان يخشى اكتشاف أمرها و اخذها منه ، كنا نعتقد انها الجنة ، حالة عشيش الخارجية كانت الأكثر بؤساً و كان يحرص على اظهار نفسه فقيراً بائساً ، فلم أراه يوماً يلبس غير قماش أكياس الخيش ، و لكن عندما مات عشيش كان معه أموالاً اعتبرناها طائلة و ربما الكثير منها كانت ملغية .
الصبية التي كانت محل زعرنات أولاد الحارة اسمها صبحية و كان لقبها حنيشه و اخوها عبد الحميد الملقب بحنيش و كلاهما كان على البركة، و كان الصغار يتبارون بينهم على من يفتح باب المرحاض على هذه الصبية المسكينة، فتثور غضباً و هيجاناً و ربما يتعمق مرضها النفسي. شمال المخيم كانت ساحة ارض اذكر أنها في بعض السنوات تكون فارغة و كنا نسميها ساحة الشوا حيث كان على تلتها بيت أقرب للشاليه، و احيانا اذكرها مسيجة تزرع بالخضراوات، كانت متنفس المخيم الذي يزدحم يومياً بمواليد جدد، فوالدي الذي هاجر هو و أمي بعد النكبة وحيدين أنجبا ستة صبيان و بنتين خلال 15 عاماً بين عام 1950 و 1965، أي مولوداً كل أقل من عامين، و أذكر جيرانا لنا و أقارب كانت معدلات مواليدهم كل عام أو أكثر. الأم تلد وتبدأ بالرضاعة الذاتية وسرعان ما تحمل بجنين آخر، ربما كانت غريزة البقاء والإدراك المبكر الفطري للديموغرافيا هي السبب الفطري وربما استبدال خصوبة الأرض المغتصبة بفحولة. الإخصاب الإنجابي رغم ضيق المكان وإنني لأعجب كيف كان يتصرف طفل ما إذا صحي من نومه على تأوهات أمه، أم كانت الممارسة الجنسية بكاتم الصوت، حتى الغريزة الانسانية أصبحت معاناة نفسية وليس متعة شهوانية.
ساحة الشوا هذه كانت كما ذكرت متنفساً لرجال وأحياناً نساء حارتنا، المحظوظة بهذه الساحة، للسمر وأذكر أنه في فصل الصيف مان ينام الكثيرون من الرجال على رمال تلتها المطلة مباشرة على البحر، ليرتاحوا من ضجيج الأطفال وربما ضيق المكان للنوم والحاجة الانسانية، ومع ذلك كانت جلسات السمر وضحكات الناس تغطي على مآسي الحياة والفقر والبطالة وقلة الحيلة. أبناء المخيم كانوا خليط من بلدات وقري الجنوب ووسط فلسطين وقلة من الشمال كعائلة الأسود التي خرج منها جيڤارا لاحقاً فكانت عائلة حيفاوية.
سكان المخيم كانوا من المجدل واسدود ودير سنيد وحمامة والجورة وعاقر بيت دراس الفالوجة ويبنا ويافا التي انجبت صلاح خلف ويازور وسلمة وبيت دجن و طبعاً من اللد و الرملة التي انجبت خليل الوزير و غيرها من القري و البلدات التي دمرت بالكامل و هجر أهلها و جُمّع من بقي منهم و اعتقلوا او حوصروا، و خاصة الذين وقفوا ضد الهجرة سيما من أعضاء عصبة التحرر، في المجدل و تم نفيهم تحت الإقامة الجبرية لاحقاً إلى الرملة و بعضهم سجن في صرفند أو عتليت في شمال البلاد. كانت النار تشتعل تحت الرماد و الشبان الذين ولدوا عشية النكبة بدأوا يدخلون تدريجياً لمرحلة الشباب، و يتسرب لهم تدريجياً وعياً ذاتياً عن أسباب بؤس ما بعد النكبة و اغتصاب فلسطين ، لعب خلالها الشيوعيون الذي أطاحوا بمشروع التوطين في سيناء و أبرزهم زعيم الشيوعيين في غزة معين بسيسو دوراً هاماً في حماية الهوية الوطنية و بلورة الوعي النضالي لاستعادة الحقوق ، كما لعب القوميون و الناصريون الشيوعيون في مدارس القطاع دور اً هاماً في توسيع نطاق الوعي و من ثم التنظيم، أذكر منهم نمر سرحان و يونس سرحان و صالح زقوت و عبد الله زقوت و المفكر نمر هنية وهؤلاء عرفتهم من خلال المدارس الابتدائية و الإعدادية و كيف كانوا يُشرِّبون تلاميذهم حكايات الوطن و التحرير و التعبئة الوطنية ، فيما بعد بدأت اسمع عن شخصيات غزة البارزة و دورها في بدايات بلورة كفاح الحركة الوطنية ما بعد النكبة، و في مقدمتهم حيدر عبد الشافي و بشير الريس و منير الريس و محمد آل رضوان بالإضافة إلى الأستاذ محمد مسلمي أبو نضال و رباح الشوا و الياس عزام و فضل حنون ” العمصي” و حسن السعافين و حسن عبد الخالق و عبد الله الحوراني في مدارس خانيونس و غيرهم و كانوا جميعاً يعملون في حقل التعليم في المداس الإعدادية و الثانوية

ملاحظة: ارتأينا مشاركة سلسلة بوح المخيم للكاتب جمال زقوت لما توفره من إطلالة على جيل ما بعد نكبة عام 1948 بمختلف أصعدتها، وهذه النصوص نشرت عبر صفحته الشخصية على موقع ” فيس بوك” وتعبر عن منظوره تجاه الأحداث.

المصدر: صفحة الكاتب الفلسطيني جمال زقوت على الفيسبوك

Exit mobile version