المدونة

عودة لطفولة و بؤس المخيم (4)

الكاتب: جمال زقوت

استمر وضعي الصحي على صعوباته و ظلّت الأزمة الصدرية تلازمني، و معها استمر ضعف نمو الجسد و قصر القامة، و مع ذلك بقيت مواظباً على الصوم بعكس تنبيهات د. كمال عبد الله و جان أرتين رحمهما الله، أذكر أن نوبات الأزمة و الكحة كانت تستمر لدقائق طويلة، و تكاد أن تأخذ روحي معها ومع ذلك فحتى الدواء أتناوله في ساعات ما بعد الصيام، تقاليد شهر رمضان في مخيم الشاطئ و باقي مخيمات غزة كانت تشكل الاحتفالية الأهم لحياة فقراء المخيمات، و بما يتجاوز الواجب الديني و ربما أنه يتحول لشهر التضامن الاجتماعي و ابتداع ليالي السمر و السهر و الأهم الاهتمام بوجبات الإفطار و السحور لشعب اللاجئين الذي يعصف به الفقر و الحاجة، في بيتنا كانت فقط أمي، و حتى تلك السنوات، و كنا نصوم شهر رمضان، و مع ذلك فإن احترام قواعد الصوم يلتزم بها الجميع ، فلا أحد يأكل أو يشرب أمام الصائم، وكانت مائدة الإفطار مناسبة يلتم عليها الجميع ويجلس عليها المفطرون قبل الصائمون، و لا يمد أحدٌ يده على الماء أو الطعام ليس فقط قبل الآذان، بل و قبل أن يمدّ الصائمون يدهم ليشربوا ثم يأكلوا، فيأكل الجميع، و تنعم الأسرة الفقيرة بما تكون والدتي قد دبرته و جهزته للإفطار، و في معظم الأحيان يشمل أنواع شهية من السلطة والمخللات و الحمص و الأسماك المقلية أو كفتة السردين أو الصيادية أو صينية السردين في الفرن بالطحينة أو البندورة و البصل، كان والدي تربطه علاقة وثيقة بالصيادين و خاصة دار العامودي اليافاوية أبو زهير و أبو فوزي، وإذا لم يذهب والدي للحسبة لشراء السمك، فيبادر أحدهما لإرسال فرش سردينة أو مرمير أو اسكنبله أو غُبُّص، و في بعض الأحيان البوري و الذهباني أو المليطا و كذلك اللوكس الذي إذا ما كان يحضره والدي فتكون وليمة متنوعة، الرأس تقطعه أمي صينية بالفرن و قطع اللوكس البيضاء تجهز للصيادية و الذيل و البطن للقلي، فبحر غزة و سردينه تحديداً، كما يعلم كل من عاش في مخيمات الساحل، أنقذ اللاجئين من مجاعة محققة، أذكر أن شهور الصيف كلها كنا نمضيها على شاطئ البحر و نسبح، فهو المكان الوحيد للترفيه و لعب الأطفال و لهوهم، و الكبار يصطادوا السمك الذي نأكله مشوياً طازجاً، و بعد حرب 67 انتشرت ظاهرة الصيد بعبوات الديناميت التي تلقي في البحر فيُحدث الإنفجار ضغطاً مائياً يكسر عظم السمك و لا يعود يستطيع السباحة أو الحركة في الماء، و ما علينا سوى جمع السمك الذي يبدأ بالطفو على وجه الماء في “العب” و هي شبكة على شكل خريطة” أي كيس شبكي له فتحة خشبية من الأعلى، و نعود بما نجمعه للبيت، و بالمناسبة لا يفصل البيت عن البحر سوى عشرات الأمتار و أقل.
بالعودة لتقاليد رمضان، فالسحور كان دوماً يقتصر على الشاي و الخبز و جبنة الكاشكوان و قمر الدين المذوب في الماء الذي يتناوله الصائم كي يمنع العطش ، يصحو على السحور المفطرون والصائمون ، و تبدأ بعده مشاغبات و عراك ينجم عنها في معظم الأحيان أن يصحو والدي من النوم غاضباً على هذه و الفوضى التي يحدثها لعب ثمانية أو تسعة أطفال في بيت أصبح يزيد عن الأربعين متراً بحوالي عشرين، كان أبي قد اشتراها من قريب لنا و أصبح بيتنا بيتين مفتوحين على بعضهما. ذات سحور ، شاط والدي غضباً على لعبنا و صراخنا، و اضطرينا للاختباء كل حيث يستطيع، فقط أخي سمير الذي لم يكن صاحياً وليس طرفاً في الفوضى ظل نائماً، رآه والدي، وهجم عليه، و حمله و فتح باب الدار و وضعه في الشارع و قال له ” عامل حالك نايم و بتضحك على، يلا كمل نومك بره” .
صحي سمير مشدوهاً لا يعلم ماذا يجري فخرجنا كل من مخبأه و نحن نصحك مقهقهين ، و ضحك أبي معنا و فتح الباب و عاد سمير لفراشه .
والدي رحمه الله كان عصامياً و يحرص ألا يحتاج أي منا ملابساً أو دفاتراً و لا يلبيها كان في بداية كل صيف يوقف التدخين كي يتمكن في بداية العام الدراسي أن يؤمن ملابس المدرسة و الدفاتر، و لا يمر عيد إلا و يشتري للجميع شيئاً ، أذكر أنه في أحد الأعياد اشترى لكل واحد منا حذاءً جديداً مستورداً ، فلم ننم إلا بعد أن وضعناه تحت مخدة كل منا.
وتدريجياً بدأ جسمي يتغلب على الأزمة الصدرية و كنت قد دخلت المدرسة الإعدادية ، فانتهت واحدة من مصائب حياتي و هي المرض و ظل أمام أبي كيف ينقذني من آثار رهاب عذاب القبر و الآخرة و تشويهات الدين التي زرعها أستاذ التربية الدينة في حياتي .
يتبع
ملاحظة: هناك أحداث تفصيلة و وصف للشخصيات و المكان لايتسع و لا يحتمل نشرها على الفيس بوك سأقوم بالتوسع التفصيلي و الأمين. عندما اصل للنهاية و صياغة النص النهائي للنشر الورقي ، حتي تستحق السردية أنها بوح المخيم.

المصدر: صفحة الكاتب الفلسطيني جمال زقوت على الفيسبوك

Exit mobile version