المدونة

حكاية لاجئ عن النكبة والمخيم والعمل الفدائي


لم يتح لي التعرف بفلسطينيتي، وإدراك تعقيدات هذه التسمية، وسبر أبعادها التراجيدية، إلا مع تعرجات الزمن، وفي معمعان الحياة الاجتماعية.

وتشاء الأقدار أن يحصل ذات الأمر مع أولادي أنفسهم، الذين ولدوا خارج فلسطين، من والدين تحدرا من أسرتين، الأب من أسرة لاجئة لسورية، والأم لأسرة لاجئة للبنان، هكذا فالوالدان لاجئان، وأولادهما باتوا مثلهما؛ وعلى الأرجح فإن أولاد الأولاد من الذكور خاصة (أي الأحفاد) سيصبحون هم كذلك؛ مادامت الأحوال على هذا الجمود، ومادام التطور السياسي والاجتماعي، في المنطقة العربية، على هذا الانسداد أو الاستعصاء!

كانت ولادتي في مدينة حلب (1954)، من والدين لاجئين، تزوجا بعد اللجوء، وكانا لا يملكان من الحياة سوى علامات الأسى والقلق من الواقع الذي ألم بهما وانتزعهما من وطنهما وأسرتهما وحياتهما العادية، وباتا فجأة في مكان أخر، وبيئة اجتماعية أخرى.

وكانت أسرتي تعتمد على عمل الوالد، الذي كان يشتغل سائقا لمدحلة في بلدية حلب، ومن راتبه البسيط بالكاد كان يستطيع تأمين مصاريف أجرة البيت والقوت اليومي للعائلة، التي بلغ عدد أفرادها تسعة (الوالدان وأربعة أولاد وثلاث بنات) في الفترة من 1953ـ 1968.

منذ تفتح وعيي بذاتي ومحيطي أحسست بفراغ اجتماعي كبير، بالقياس إلى أقراني من الجيران (الحلبيين) الذين كان لديهم أجداد وجدات وأخوال وخالات وأعمام وعمات وأولاد عم وأولاد خال وأولاد عمة، إذ لم يكن في محيطنا، في مدينة حلب، أقارب من الدرجة الأولى أو الثانية، باستثناء جدتي لوالدتي. والحاصل أن معظم أقاربنا لوالدي لجأوا إلى مدينة عمان أو الزرقاء في الأردن، وبعضهم عاش في دمشق، أما أقاربي لوالدتي فسكن غالبيتهم في مدينة حمص.

وهكذا فإنه بنتيجة النكبة والتشرد تمزق، أو تحطم، الإطار الاجتماعي لعائلتي، كقدر معظم العائلات المدينية الفلسطينية، وربما أن هذه ظاهرة سلبية، أو أنها ظاهرة فاقمت من مشكلة ومن معاناة اللاجئين الفلسطينيين من المدن الفلسطينية، في حين أنه يحسب لللاجئين من الريف الفلسطيني تماسكهم وحفاظهم على روابطهم المجتمعية؛ وحتى أنهم نقلوا تراث قريتهم وأغانيهم ودبكاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولهجتهم إلى أولادهم.

وخصوصاً أن اللاجئين من الريف عاشوا، على الأغلب، في المخيمات، وسموا شوارعها بأسماء قراهم، في حين أن قسما مهما من اللاجئين من المدن الفلسطينية عاشوا في المدن العربية، وتحقق لهم نوع من الاندماج فيها، وساعد على ذلك انهيار إطارهم الاجتماعي (الأسري)؛ وهذا ينطبق على الأسر فقيرة الحال، أكثر مما ينطبق على الأسر الميسورة التي جددت روابطها وحافظت عليها.

أبي كان ينتمي إلى عائلة الكيالي، التي كانت تسكن في مدينة اللد، وكانت هذه العائلة منتشرة في مثلث مدن: اللد والرملة ويافا، أما الأم فكانت من عائلة حجازي وهي لاجئة من مدينة حيفا.

تنقلت عائلتي في أكثر من حي من الأحياء الشعبية في مدينة حلب، من الجلّوم إلى باب قنّسرين (وهما حيّان في المدينة القديمة) إلى الكلاسة (وهي حي شعبي جنوبي حلب، تحيط به البساتين وقتها ويشرف على السكة الحديدية.

وكان المسكن (إن صح التعبير) يتألف، في البداية، إما من غرفة أو غرفتين مع منافع مشتركة، ثم أتيح لنا السكن في شقة مستقلة تتألف من غرفتين ثم ثلاث مع منافع، وكل ذلك مقابل بدل إيجار شهري (حتى العام 1974)، حيث جرى اقتناء منزل بواسطة القسط الشهري.

هكذا لم يتح لي العيش في المخيم، وحتى أنه لم يكن لدينا أقارب يقطنون في المخيم، سوى عائلة واحدة، وهي عائلة جدتي لأمي، التي كانت تقطن في مخيم النيرب (وهو أحد مخيمين في مدينة حلب)، لذلك جاء وعيي بواقع اللجوء، ربما، متأخرا لبعض الزمن عن أقراني، من الذين ولدوا وترعرعوا في المخيمات، وعاشوا أزقتها وعانوا بؤسها.

بدأت معرفتي بفلسطينيتي تتفتح، رويدا رويدا، في زياراتي مع والدي لبيوت آل الكيالي، التي لجأ غالبيتها إلى الأردن، ثم انتقل البعض منهم إلى مدينة حلب؛ على أساس أنهم يتحدرون من هذه المنطقة، كونهم ينتسبون إلى العائلة الكيالية الحلبية (والمتحدرة من مناطق شمالي حلب).

ويبدو أن صلة القربى هذه أتاحت لمعظم العائلات الكيالية (الفلسطينية) وهي قليلة أصلا، أن تقطن في أحياء حلب الشعبية، في بيوت تابعة للوقف أو للبلدية (كانت مساجد سابقة)؛ وذلك بفضل عبد الرحمن الكيالي (الحلبي) الذي كان يشغل في حينها رئيسا لبلدية حلب، وهو من زعماء الكتلة الوطنية في سوريا (وقتها). ولم يتوقف الأمر على ذلك إذ أن عبد الرحمن الكيالي قام بتوظيف عدد من الكيالية الفلسطينيين، في البلدية، ومنهم والدي الذي عمل سائقا لمدحلة، حتى تقاعد في سن مبكرة بسبب مرض ألم به، في منتصف السبعينيات (الربو).

وفي هذه الزيارات كان يلفت انتباهي سكن هذه العائلات، في بيوت الدين والوقف، وكأنه سكن موقت، كونه لا يشبه سكن الحارة التي نقطن فيها!

أيضا لفت انتباهي في هذه السن المبكرة، أنه كان ثمة يوم استقبال، في كل يوم من أيام الأسبوع، لإحدى العائلات الكيالية، حيث يتجمع شمل العائلة، من رجال ونساء وأطفال! ومن هذه الزيارات مازلت أذكر أن تواجد معظم الأقرباء في يوم معين عند كبير العائلة ووجيهها، محمد علي الكيالي، وهو ابن خال والدي (وهو نفسه كان يقطن في بيت للوقف)، وعرف بأنه أول وآخر رئيس لبلدية اللد!

وفي هذه الزيارات والجلسات، وعدا عن مظاهر العائلة البطركية، لناحية إبداء مظاهر الاحترام للكبار، وتقبيل الأيادي، بدأت اسمع كلمة فلسطين، وعن المذابح التي ارتكبها اليهود الصهاينة في فلسطين، وعن الغدر الذي تعرض له شعب فلسطين، طبعا من دون أن أدرك أبعاد هذه الحكايات وتأثيرها علي لاحقا. كما بت اسمع عن العز الذي كان للعائلة في اللد، والرملة ويافا.

في تلك الأيام، حيث عمري لم يكن يزيد على بضع سنوات، كنت أذهب أيضا مع والدي إلى منطقة العرقوب في حلب لجلب «الإعاشة»، حيث كنت أشاهد العشرات من النساء والرجال والأولاد، الذين يتكومون ومعهم البطاقة الخضراء (بطاقة الاونروا) التي تمنحهم الإعاشة الشهرية، وهي تتألف من عدة كيلو غرامات من الطحين وكمية من الأرز والسكر والزيت والسمن.

وبالطبع فإنني كما غيري كنت أقرأ العبارة التالية على أكياس الطحين: «هدية من شعب الولايات المتحدة الأميركية»، ولكنني في حينها لم أكن أدرك ماهي هذه الولايات المتحدة ولا لماذا ترسل «الهدايا» للشعب الفلسطيني، كما لم أكن أدرك ماهية دور الاونروا أو وكالة الغوث ولا لماذا نحن نعتبر لاجئين..وهكذا..

والواقع فإن هذا المشهد الشهري كان جد مؤثر عليّ، إذ كنت اسمع لهجة تختلف عن اللهجة الحلبية، التي يتكلم بها أبناء حارتنا، واسمع حكايات عن مآسي الفلسطينيين. وهنا عرفت أنه ثمة أناس يختلفون عن الناس الذين أعيش معهم في الحي الذي أقطن فيه مع عائلتي.

وفي حارتي ميّزني طقس الإعاشة، أو كشفني، تماماً كفلسطيني، إذ أن الخبز الذي تعجنه أمي، من طحين الإعاشة، وأحمله على رأسي، في طبق من قش، إلى الفرن القريب، كان يشي بهويتي أو باختلافي. وفي الحقيقة فإن رائحة رغيف الخبز كانت شهية وطازجة. وكان الرغيف الذي يخرج من الفرن يختلف تماما على الرغيف المتعارف عليه، آنذاك، في الفرن الحلبي، وكان أقرب إلى «الصمون»، ولكن بشكل دائري وأبيض اللون، وحتى أن الفران كان يحلو له أن يطلب رغيفا في كل مرة ليتذوقه.

أما زياراتي الفلسطينية مع والدتي فكانت إلى مكانين: أولهما، مستوصف الوكالة (الاونروا) في حلب وهناك أيضا كنت اسمع ذات اللهجة الفلسطينية التي كنت اسمعها في الإعاشة، وكنت أعي أننا في هذا المكان، حيث نتعرض للفحص الطبي ونأخذ الدواء، نختلف عن الآخرين..

وبديهي أن المكان الثاني والأكثر أهمية في تعرفي بفلسطينيتي كان مخيم النيرب، حيث كنت أقصده بزيارات متكررة مع والدتي وأخوتي، لزيارة والدتها (جدتي).

وبما أننا كنا نقطن في حي شعبي بمدينة حلب، فكانت هذه الزيارة تتطلب منا وقتاً طويلاً، فالأمر يتطلب ركوب ثلاثة خطوط باص، الأول من الحي الذي نسكن فيه إلى مركز المدينة، والثاني من مركز المدينة إلى طرفها الشرقي، والثالث إلى مخيم النيرب.

وكانت مدينة حلب تحتضن مخيمين: أحدها هو مخيم النيرب وهو الأساس، والثاني مخيم حندرات وهو أحدث من الأول.

يقع مخيم النيرب شرق حلب، بجوار قرية النيرب، ويعرف بقربه من مطار حلب؛ وهو يبعد عن مركز المدينة عدة عشرات من الكيلومترات، وتفصله عنها مناطق زراعية. أما أصل المخيم فهو مجرد ثكنة عسكرية للجيش الفرنسي (سابقا). وكان المخيم، أساساً، يتألف من عدة «براكسات»، أي مهاجع. وفي بداية اللجوء كانت تقطن في كل براكس عدة عائلات، تفصل بينها قطع من القماش أو حرامات، وفيما بعد تم تقسيم البراكس لعدة غرف، حيث أقامت في كل غرفة عائلة بكاملها!

لم يكن ثمة خدمات صحية لهذه البراكسات، التي غدت بيوتا. فالخدمات (إن جاز التعبير) هي في أماكن خارجية، وهي جماعية. فثمة مكان يحتوي على عدة صنابير للمياه تخدم عدة براكسات، وكذا الأمر بالنسبة للمراحيض، فهي عامة؛ وكان هناك مكان مخصص للنساء ومكان للرجال. وهذا يعني أن العائلة تقوم بتعبئة المياه في أوعية خاصة وتخزنها (داخل الغرفة) للاستعمال. أما قضاء الحاجة فيستلزم خروج الرجال والنساء الصغار والكبار، في الحر والقر، في الليل أو النهار، لهذا الأمر.

إضافة إلى ذلك فإن هذا المخيم كان مكتظاً، فالبراكسات متجاورة، والمسافة بين الواحد والآخر حوالي متر أو متر ونصف. وثمة طريق يصل أطراف المدينة بالمخيم، هو ذاته طريق المطار، الذي ينحرف عند نقطة معينة للذهاب إلى قرية النيرب، وبالتالي المخيم. وعدا عن هذا الطريق كان هناك شارع واحد في هذا المخيم، يشقه من الشرق إلى الغرب، لا يتجاوز عرضه ثمانية أمتار، وعلى يمين هذا الشارع ويساره، تتوزع مكاتب الاونروا والمدرسة والمقهى وبعض البقاليات ومحلات بيع الفلافل…

أما المخيم الثاني، وهو مخيم حندرات، فقد بني بعد مخيم النيرب بسنوات، ويقع في الطرف الشمالي من مدينة حلب، وهو بعيد عن المدينة، أيضا، بمعنى أنه يحتاج إلى باص إضافي بعد الوصول إلى طرف المدينة، على غرار ما يحصل بالنسبة لمخيم النيرب.

ويقع المخيم على تلة تحتها يمر مجرى صغير يعرف بنهر «قويق»، ويتألف المخيم من بيوت من الحجر الحلبي أو البلوك. ونشأ هذا المخيم بجهود الوكالة (الاونروا) التي وزعت قطع صغيرة من الأراضي على بعض العائلات الفلسطينية، التي بنت عليها منازل بسيطة من غرفة أو أكثر، مع منافع.

لم يكن ثمة أقارب لي في مخيم حندرات، لذلك فإن وعيي بالمخيم نشأ من خلال زياراتي المتكررة لمخيم النيرب، كما قدمت. ففي هذا المخيم بدأ وعيي بفلسطينيتي يتبلور، وإن بشكله البسيط، حيث كنت أشاهد مظاهر البؤس والعوز، في حياة اللاجئين، وكانت مظاهر الأسى والتحسر والغضب والعنف، هي السائدة في مشهد المخيم.

في هذه المرحلة كان المقهى، في عصره الذهبي، خاصة بالنسبة للشباب الفلسطينيين، مكان تجمعهم وتعارفهم واستعادتهم، بشكل جماعي لذكرياتهم، وهو أيضا المكان الذي يقتلون فيه وقتهم واحباطاتهم من الضياع ومن الواقع المزري الذي يحيط بهم.

ولما كان والدي من رواد المقاهي، فإن مرافقته لنا في زيارتنا لمخيم النيرب كانت تتضمن الذهاب إلى مقهى المخيم، وكنت أرافقه في هذه الزيارة. وفي هذا المقهى ظلت تلفت انتباهي، وبشكل جيد، صورة رجل يعتمر الكوفية ويحمل حزاما من الرصاص ويتمنطق مسدسا. وكانت هذه الصورة، في المقهى، بمثابة أيقونه، وبقيت لسنوات مدعاة تأمل طويل لي، في كل مرة أذهب فيها لهذا المقهى. وحينما بلغ بي الوعي حد التساؤل عن هوية صاحب هذه الصورة علمت أنها للشهيد عبد القادر الحسيني، وهي من الصور المشهورة له.

في مخيم النيرب، أيضا، بدأت أتعرف على أسماء المدن والقرى الفلسطينية، من أسماء شوارع المخيم، فتعرفت على أسماء حيفا ويافا وعكا وصفد والناصرة وترشيحا والطيرة وسحماتا والبروة وصفورية..وفي هذا المخيم صرت اسمع حكايات اللجوء وأحس بمرارة التشرد والغربة والحرمان من الوطن، وأكتشف البؤس والضياع وانعدام الأمل، الذي بات يحيق بحياة اللاجئين.

وكانت حياة اللاجئين في هذا المخيم جد قاسية، فاغلبهم كان يشتغل بأعمال البناء الشاقة، وخاصة حدادة الباطون والدهان، وكانوا يعانون من الفقر ومن تحطم البنية الاجتماعية، ومن تدني مستوى الثقافة، لدى غالبيتهم.

طبعا هناك فئة من الفلسطينيين، كعائلتي، سكنت في أحياء مدينة حلب، وهؤلاء هم في غالبيتهم من المتعلمين أو من الموظفين والعمال المهرة، وهؤلاء خليط من متوسطي الحال والفقراء، وكانت عائلتي من الفئة الثانية.

المهم أن هذه الأماكن ساهمت بتعريفي بوضعيتي كفلسطيني، ولكن وعيي بالاختلاف، أي بكوني لاجئا، كان لها علاقة بمكان سكني، وهذه غير تلك. وما زلت أعتقد أنه، ربما، لو قيض لي النشوء في المخيم لما كان وعيي بفلسطينيتي أو باللجوء، وبالتالي وعيي السياسي وارتباطي بالعمل السياسي، على هذه الدرجة من العمق، التي أثرت على مجرى حياتي.

الظاهر أن لهجة أهلي المختلفة عن لهجة أهالي الحي الذي نقطنه (وهو حارة شعبية)، وذهابي إلى الإعاشة وطريقة إعدادنا لخبزنا اليومي، ورحلتنا الأسبوعية تقريبا، إلى بيت جدتي في مخيم النيرب، كانت تلفت انتباه أهل الحي، الذي يتشكل على الأغلب من الفقراء والبسطاء والأميين.

وبرغم تعاطف أهالي حلب معنا كفلسطينيين، ومع القضية الفلسطينية، كحال المجتمع السوري عموماً، فإن أهالي الحي كانوا يستطيبون أن يطلقوا على والدي، وعلي فيما بعد، لقب الفلسطيني، بدلا من بيت فلان، أو بيت أبو فلان، كحال غيرنا من أهالي الحي. طبعا في البداية لم يكن ثمة أية دلالة لهذا اللقب، ، بالنسبة لي، ولكن فيما بعد بدأت أدرك تضميناته، وإن غير المباشرة أو غير المقصودة.

فيما بعد، أي بعد أن بتّ أذهب إلى المدرسة الابتدائية، صرت انتمي إلى مجتمع أكبر، وهو مجتمع المدرسة. وإذا كان أهل الحارة (أي الجيران) اعتادوا على كوني فلسطينيا، فإن وضعيتي في المدرسة كانت لافتة للانتباه فأنا الفلسطيني الوحيد في هذه المدرسة، ما جعل مني حالة خاصة.

في هذه المرحلة، كما هو معروف، كان ثمة مقولات رائجة عن بيوع الفلسطينيين لأراضيهم، وكانت هذه الفرية تقذف هنا وهناك على مسامعي من قبل الأولاد في الحارة أو في المدرسة، الذين لابد يسمعونها من أهاليهم، خصوصا إذا كانت تنقص هؤلاء المعرفة والثقافة، في مجتمع كانت نسبة الأمية والتخلف فيه، خصوصا في الأحياء الشعبية الفقيرة، نسبة كبيرة. وطبيعي أن هذا الادعاء كان يستفزني ويقلقني ويوجعني كثيرا؛ ولطالما خضت المجادلات الصعبة حول هذا الموضوع مع أقراني، بغض النظر عن عمق النقاش أو مداه.

وعلى أية حال فثمة حادثة شكلت علامة فارقة في وعيي لفلسطينيتي وفي إدراكي لكوني لاجئا. ففي الصف الرابع أو الخامس ابتدائي، على ما أذكر، كنت أحضر درسا في التاريخ، وفي هذه المرحلة وصلنا، في المقرر عند درس يتعلق باغتصاب فلسطين. وبعدما خرجنا إلى الفرصة، في باحة المدرسة، تحدث بعض رفاقي من التلاميذ عن قصة بيوع الأراضي من قبل الفلسطينيين، فما كان مني إلا أن رددت على هذه الدعاية وقلت أن الحكام والملوك العرب هم من باعوا فلسطين..وهكذا، وأنهم هم من يتحملون مسؤولية ضياعها وضياعنا. المهم أننا عندما عدنا إلى الحصة، نقل احد التلاميذ كلامي إلى معلم التاريخ، الذي ناداني باسمي وزجرني وقال لي: كيف تتكلم بهذا الكلام، مرفقا ذلك مع صفعة من يده على خدي!.. وفي الواقع فقد غضبت كثيرا من هذا التصرف، الذي لم استطع أن أفعل شيئا إزاءه..وهكذا كان لهذه الحادثة أثر كبير لدي وحتى أنها انحفرت في ذاكرتي ولم استطع نسيانها على مر الزمن..

المفارقة أنه بعد سنوات قليلة من ذلك، انقلبت الصورة رأساً على عقب. ففي مرحلة انطلاقة الثورة والمد الحاصل في ما بعد معركة الكرامة (1968)، ورغم أنني كنت الفلسطيني الوحيد في المدرسة الإعدادية، إلا أنني بت واحداً من علامات المدرسة. ففي هذه المرحلة اختلفت صورة الفلسطيني، إلى درجة بات فيها أي معلم عندما يتحدث عن العمل الفدائي لابد أن يسألني رأيي! وفي هذه المرحلة أتيح لي أن أعبر عن خصوصيتي الفلسطينية، من خلال إعداد مجلة حائط، تنقل أخبار الثورة وصور الفدائيين وأشعار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران.

وكنت في كل مناسبة فلسطينية أعد ورقة لأقرأها على مسامع الطلاب بإذن من إدارة المدرسة.. وهكذا فإنه مع ظهور العمل الفدائي، تغيرت صورة الفلسطيني، واختفت صورة اللاجئ المسكين، المشرد، ومعها قصص بيوع الأراضي، وظهرت صورة أخرى للاجئ الفلسطيني، الثائر البطل الذي يضحي بروحه من أجل شعبه ووطنه وأمته..

وطبيعي فإنني، كغيري من الفلسطينيين، وجدت في هذه الصورة ملاذاً ووطناً، مثلما وجدت فيها رداً على الاتهامات، التي كانت تكال ظلما بحق الفلسطينيين، فتفاقم من شعورهم بالنكبة، وتعمق من حالة الاغتراب لديهم وتعزز لديهم الإحساس بأنه ثمة شيء ما ينقصهم..ولعل هذا ما قصدته، بالضبط، عندما تحدثت عن أن ظروف سكني خارج المخيم ساهمت في إنضاج وعيي بفلسطينيتي، وبواقعي كلاجئ، وبضرورة الانخراط في أي عمل لتجاوز هذا الواقع؛ وربما راود هذا الإحساس الكثيرين ممن سكنوا خارج المخيمات..

مع النهوض الفلسطيني باتت صورتي كفلسطيني وكلاجئ تختلف، وقد انعكس ذلك بشكل جلي وايجابي على وعيي لذاتي، وعلى نفسيتي وعلى شكل علاقتي بالجيران والأصدقاء في المدرسة. وفي هذه المرحلة بدأت أحس أنه ثمة خصوصية ايجابية في كوني فلسطيني وأنه ثمة رسالة لي أو دور يجب أن أؤديه في هذا المجال، إن إزاء نفسي أو إزاء محيطي.

الآن نحن في أواخر الستينيات، وكنت في نهاية المرحلة الإعدادية، وفي هذه المرحلة بات الفدائيون يظهرون باللباس الكاكي، أو الزيتي أو المموه، في شوارع حلب، وكان الناس يتحلقون من حولهم، وينسجون الأساطير عنهم، إذ أن الوعي الشعبي البسيط، بعد نكسة أو نكبة 5 حزيران، كان بحاجة لبطل، ووجد الناس ضالتهم بالفدائي الفلسطيني.

آنذاك كان صوت «العاصفة» يبثّ من القاهرة الأناشيد الحماسية. وبدأت الملصقات التي تمجد العمل الفدائي تظهر على حيطان شوارع حلب فتشدني إليها بنوع من المغناطيس أو السحر..وكانت الجنازات الاحتفالية تنظم على امتداد شوارع حلب لتوديع الشهداء من الفدائيين، من الفلسطينيين ومن الحلبيين، بمواكب حاشدة ومهيبة.

أما مخيم النيرب فقد تحول كثيرا، في تلك الآونة، إذ بات بمثابة قبلة للزوار من الحلبيين الذين يريدون أن يكتشفوا الفلسطينيين من جديد، وكأنهم خلقوا للتو! وكان الكثير من أصدقائي يلحون علي لأخذهم إلى المخيم ليتعرفوا على الفلسطينيين وليشاهدوا احد الفدائيين.

وكانت حركة فتح افتتحت مكتبا ومعسكرا صغيرا لها في المخيم، وبدأت توزع مجلتها (الثورة الفلسطينية). وفي هذه المرحلة أيضا برز نشطاء الجبهة الشعبية وباتت مجلة الهدف توزع، وإن بحدود في المخيم.

مع كل ما تقدم ظلت علاقاتي بالمخيم وبتحولاته خارجية، أو محدودة، ولم يكن ذلك ليرضيني أو ليهدئ من المشاعر التي كنت اختزنها لهذا اليوم. ولذلك فإن العلامة البارزة للتعبير عن ذاتي القلقة والثائرة، تمثلت في انخراطي بالتحول الفلسطيني الجديد، عبر الالتحاق مباشرة بالعمل الفدائي في الأردن، بعد نيل الشهادة الإعدادية (صيف العام 1970).

ومنذ ذلك الحين أظن أنني، كما أبناء جيلي من الفلسطينيين اللاجئين، بتنا أمام حكاية جديدة، أو ربما أننا بتنا نساهم في صنع رواية جديدة؛ باتت فيها الثورة (حينها) بمثابة أسرة وربما غاية ووطنا متخيلا. وهذه سردية أخرى، وحكاية هوية أخرى، إذ انضوت هوية اللاجئ في هوية وطنية فلسطينية صنعتها هذه الثورة المسلحة بما لها وما عليها.
*جزء من سيرة ذاتية، (كتبت في مادة أطول لملحق “نوافذ” في جريدة المستقبل 10/5(2009) ـ اللوحة للفنان نذير نبعة

رابط المقال: https://bit.ly/3e6eN9m

الكاتب: ماجد كيالي

Exit mobile version