25 نوفمبر، 2024
نابلس - فلسطين
التحوير العظيم: مكان خاص للشركات في الأمم المتحدة
المدونة

التحوير العظيم: مكان خاص للشركات في الأمم المتحدة

«من الواضح أن قراءته [كلاوس شواب] تنصرف، من دون أن يقرر ذلك أو يفصح عنه بنحو من الأنحاء، الى “الغرب الجماعي” (Collective west)، الذي لطالما فسر صيغة التعاون على مقاس مصالحه: سيادته مقابل خنوع بقية العالم لمشيئته، هو الذي يبدو اليوم في حالة هياج إذ يرى عالم الجنوب ينسل رويدا رويدا من تحت يديه، أو من تحت يدي “صيغته التعاونية».

 محمد الصياد*

 بات مصطلح “التحوير العظيم” أو إعادة الضبط الشاملة “The Great Reset”، يسيطر على جزء مهم من فضاءات التعبير البديلة. المناهضون للعولمة، وجدوا فيه اثباتاً يقينياً لما يعتقدون أن حفنة من كبار مليارديرات العالم، ورموزهم التنظيرية الموزعة على مروحة واسعة من مواقع التأثير في صناعة القرار الوطني والدولي، يخططون من خلال بعض “مقرات” تجمعاتهم المعلنة والأخرى شبه السرية، لتشكيل مستقبل العالم وإعادة هندسته. 

خطة “التحوير العظيم” مستنبَطة من “مبادرة إعادة التصميم العالمية” (Global Redesign Initiative)؛ وهي مبادرة كان قد صاغها في تقرير من 600 صفحة، المنتدى الاقتصادي العالمي (أو منتدى دافوس) بعد الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية في 2008، واستهدفت، كما ورد في التقرير الخاص بالخطة، تغيير الحوكمة العالمية. وبحسب  رؤية المنتدى الاقتصادي العالمي لهذه الحوكمة، “سيكون صوت الحكومة واحدا فقط من بين العديد من الأصوات، دون أن تكون صاحبة الحكم النهائي، بل إن الحكومات ستكون مجرد صاحبة مصلحة من بين أصحاب المصلحة الآخرين لإدارة الحوكمة العالمية. والقصد ينصرف هنا الى الشركات الكبرى التي أدرجتها “مبادرة إعادة التصميم العالمية” كشركاء أساسيين في تنفيذ خطة المنتدى، وهي؛ في مجال النفط: شل، وشيفرون، وبي بي (BP). وفي مجال المواد الغذائية: يونيليفر، كوكا كولا، نستله. وفي مجال التكنولوجيا: فيسبوك، غوغل، أمازون، مايكروسوفت، وأبل). وفي مجال المستحضرات الصيدلانية: أسترا زينيكا، فايزر، وموديرنا. هاريس جليكمان، وهو زميل أول في مركز الحوكمة والاستدامة في جامعة ماساتشوستس بوسطن، وصف التقرير حينها بأنه “خطوة لتحويل الأمم المتحدة الى شراكة بين القطاعين العام والخاص وانشاء مكان خاص للشركات داخل الأمم المتحدة، بما يعد أوسع عملية إعادة صياغة للأمم المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية[1].

في يوليو/تموز 2020، نشر مؤسس منتدى دافوس، “كلاوس شواب – “Klaus Schwab والاقتصادي الفرنسي صاحب نشرة  “المؤشر” {بارومتر} (Barometer) الشهرية   تييري مالرييه  Thierry Malleret كتاباً بعنوان مثير وجاذب للاهتمام: “كوفيد-19: التحوير العظيم” (COVID-19: THE GREAT RESET)؛ وذلك بعد مرور أقل من 4 أشهر على اندلاع جائحة كورونا.

بما أن اختصاصه الأكاديمي، هو الهندسة والاقتصاد، حيث يحمل درجة الدكتوراه في الاختصاصين، فقد اختار شواب شريكاً له في تأليف الكتاب، من نفس البيئة الفلسفية النفعية التي ينتمي اليها والتي جذب معه اليها، العديد من كبار مليارديرات الأوليغارشيا العالمية الذين تحولوا في السنوات القليلة الماضية الى مخططين عالميين تحوم حولهم الشبهات والاتهامات، بشأن خططهم ومشاريعهم العالمية المعلنة وغير المعلنة. حتى صارت أسماء مثل شواب نفسه، وبيل غيتس وجورج سوروس
وجستين ترودو وأنجيلا ميركل
ومارك زوكربيرغ وإيمانويل ماكرون، وغيرهم، مقرونة في السوشيال ميديا، بعالم الأشباح الذين يعملون في الخفاء أكثر من عملهم في العلن، بعيدا عن الأضواء. ماكرون بالمناسبة، أُدخل في مدرسة الأساتذة العليا، وهي كلية تخريج النخبة الإدارية والسياسية المستقبلية الفرنسية، رغم فشله مرتين في اجتياز امتحانات القبول، تم توظيفه في عام 2008 في بنك روتشيلد، بدفع من أبيه الروحي جاك لانغ، أحد منظري المذهب النيوليبرالي الفرنسي، وللمفارقة رئيس معهد العالم العربي في باريس حالياً. والأمر لا يقتصر على هؤلاء الذين ليسوا سوى وجهاء القوم لقائمة تطول حتى أصبح تعداد أفرادها حوالي 3800 شخصية معولمة تم تدريبها وتأهيلها على يد العراب الأكبر كلاوس شواب. 

يتضمن الكتاب العديد من التخمينات والأفكار حول الشكل الذي قد يبدو عليه عالمنا ما بعد جائحة كوفيد-19، وما ينبغي أن يكون عليه، بحسب شواب. وهو يتكون من ثلاثة فصول رئيسية، يقدم فيها المؤلفان نظرة بانورامية عامة عن المشهد المستقبلي العالمي. الأول يقيِّم تأثير الوباء على خمسة مجالات رئيسية: الجوانب الاقتصادية، والمجتمعية، والجيوسياسية، والبيئية، والتكنولوجية. أما الفصل الثاني فيتناول التأثيرات من الناحية الجزئية، على صناعات وشركات بعينها. فيما خُصِّص الفصل الثالث لطبيعة العواقب المحتملة على الأفراد. فهنالك تغييرات جذرية حدثت، ودفعت بعض النقاد للفصل بين مرحلتين عالميتين، مرحلة ما قبل فيروس كورونا (Before coronavirus – BC)، ومرحلة ما بعد فيروس كورونا
(After Coronavirus – AC).

يقول شواب وشريكه في تأليف الكتاب “نحن الآن على مفترق طرق، وأمامنا طريقان لنسلكهما، الطريق الأول، إذا سلكناه سيأخذنا إلى عالم أفضل: أكثر شمولية، وأكثر إنصافاً، وأكثر احتراماً للطبيعة الأم. والطريق الثاني سوف يأخذنا إلى عالم يشبه العالم الذي تركناه للتو وراءنا، لكنه أسوأ منه، وتواجهه باستمرار المفاجآت السيئة. لذلك يجب علينا أن نختار الطريق بشكل صحيح. قد تكون التحديات التي تلوح في الأفق أكثر هولاً مما تخيلناه حتى الآن، لكن قدرتنا على إعادة تحوير الكون، قد تكون أيضا أكبر مما كنا نتجاسر عليه في السابق”. والكتاب، كما يقول مؤلفاه، يهدف لتحديد وإلقاء الضوء على التغييرات المقبلة، والمساهمة في تحديد ما قد يكون عليه شكل العالم المنشود والمستدام[2].

منذ شهر آذار/مارس 2020، عاشت شعوب العالم، من دون استثناء تقريباً، أياماً عصيبة، وأحداثاً تخطت بجسامتها مخيلة العقل البشري في التنبؤ بطبيعة وحجم الكوارث التي تهدد بقاء الجنس البشري. فلم يكن أكثر المنجمين تشاؤماً، ليتنبأ بقيام حكومات العالم بالحكم على شعوبها قاطبة بالاقامة الجبرية 24/24 ساعة لمدة فاقت السنتين، بابتداع حالة الاغلاقات التامة “Lockdowns”، التي دخلت اللغات العالمية كمصطلح يرمز الى الشؤم والموت الذي خطف أرواح حوالي 7 مليون شخص من جميع أنحاء العالم حتى نيسان/أبريل 2023. وكيف ظهرت خلال فترة وجيزة لا تتجاوز الشهور الستة، لقاحات تنافست بلدان وشركات على انتاجها وسرعة انزالها الى الأسواق من دون أية اختبارات مسبقة (بحسب جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، فإن الجدول الزمني النموذجي لتطوير اللقاح يتراوح ما 5-10 سنوات، وأحيانا أطول، لتقييم ما إذا كان اللقاح آمنا وفعالا في التجارب السريرية، واستكمال إجراءات وأخذ الموافقات البروتوكولية التنظيمية، وتصنيع كمية كافية من جرعات اللقاح لتوزيعها على نطاق واسع). فاختباراتها تمت مباشرة على مواطني القرية العالمية. فأنتجت روسيا لقاحها سبوتنك-في أو سبوتنك 5 “Sputnik V”، وأنتجت الصين 8 لقاحات أشهرها وأكثرها رواجاً وتسويقاً “سينوفارم” (Sinopharm)، وأنتجت أمريكا لقاحي فايزر بيونتيك (Pfizer-BioNTech)، و”موديرنا” (Moderna). فكان أن تكشفت فيما بعد فضائح موت الآلاف في مختلف أنحاء العالم، بسبب مضاعفات هذه اللقاحات، لاسيما لقاح فايزر الأمريكي. 

مؤلفا الكتاب، يعمدان للتهوين من طبيعة وهول التدابير الحكومية المتخذة، وفي مقدمتها الاغلاقات. فهما يقولان بأن تدابير الحبس والاغلاق كانت دائما جزءاً لا يتجزأ من ترسانة سياسة الدولة، وكانت ممارسة شائعة لعدة قرون، قد يكون أقدمها، الحجر الصحي الذي فُرض لاحتواء الموت الأسود (الطاعون) خلال الفترة الواقعة بين عامي 1347 و1351، والذي حصد حوالي ثلث أرواح الأوروبيين. بما قد ينسحب على تجربة وضع سكان العالم رهن “الاعتقال الإداري الجماعي”، ومراقبتهم باستخدام جهاز تتبع عبارة عن حلقة توضع في معصم اليد، كأول تجربة للمراقبة الفردية والجماعية الكونية الشاملة. فالمؤلفان يدفعان بأن البشر موجودون منذ حوالي 200,000 سنة، وهناك بكتيريا يعود وجودها الى مليارات السنين، وفيروسات لما لا يقل عن 300 مليون سنة؛ ما يعني أن الأوبئة كانت دائما موجودة، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من تاريخ البشرية. ومنذ أن بدأ البشر الترحال عبر أصقاع العالم المختلفة على مدار السنوات الألفين الماضية، كانت هذه هي القاعدة. حيث أثبتت الأوبئة، على مر التاريخ، وبسبب طبيعتها المدمرة، أنها قوة دائمة وفي كثير من الأحيان، قوة تغيير عظمى.  قوة التغيير العظمى هذه، التي ينسبانها للأوبئة، هي بالذات ما يروم شواب ورفيقه، استثماره وتطبيقه على كافة مناحي حياة البشر ما بعد الجائحة. فقبالة التغيير الجذري الذي تحدثه الأوبئة، متجسدة، كما يقولان، في اندلاع أعمال شغب وصدامات بين السكان، وربما حروب، بسبب التكالب على الموارد، وقد تتسبب في ثورات وحروب تعيد رسم الحدود الوطنية – هي أيضا تدفع وتحفز الابتكارات (يقصدان استغلال رأس المال للأزمة والاستثمار فيها)، قدما الى الأمام.

إنما على عكس السردية التي  حققها وأشاعها ونشرها آلاف النشطاء المناهضين للعولمة الرأسمالية، عن كلاوس شواب ورهطه من العولميين “Globalists”، والتي تدور حول الأعمال الشريرة الكامنة خلف الصورة “الناصعة البياض” التي يظهرها شواب وتجمعه العالمي السنوي في منتجع دافوس السويسري – دارت طروحات شواب ومالرييه في تأليف الكتاب. فمؤلفا الكتاب يدعوان، في إطار ما أسمياه “التحوير العظيم”، أو إعادة الضبط الشاملة (The Great Reset)، الى توجيه السوق لتحقيق نتائج أكثر عدالة، وقيام الحكومات بتنفيذ حزمة إصلاحات اقتصادية واجتماعية لمجتمع أكثر انصافاً، بما يشمل ذلك ادخال تعديلات على الضرائب المفروضة على الثروات. وأن تتوجه برامج الانفاق الحكومية لتحقيق أهداف مشتركة، مثل المساواة والاستدامة، وتسخير ابتكارات الثورة الصناعية الرابعة لدعم الصالح العام، لاسيما من خلال معالجة التحديات الصحية والاجتماعية.

مع الاستدراك هاهنا، بأن هذه النخب لازالت مستمرة في مراوغة استحقاق تدفيع أصحاب الثروات ثمن تمتعهم بكافة تسهيلات ودعومات الدولة وتسخيرها كافة مرافقها وبنيتها التحتية لخدمتهم وتزييت حركة رؤوس أموالهم، وذلك برسم الصياغة “الذكية” التي تتيح للمشرعين وأجهزة التسيير التنفيذية، التلاعب بنتائجها النهائية، رغم تسليم هذه النخب، اضطراراً، بدنو استحقاق تمثيل قيمة المساواة “Equality” التي بدأوا يجارون تيار الدعوة المتنامي لتجسيدها. كما أن المؤلفين لم ينسيا تضمين روشتتهما لإعادة الضبط الشاملة، الكليشة التي تشترك فيها كافة مؤسسات الرأسمالية الحاكمة، وهي سحب الدعم من الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز)، وتغليظ ترسانة قوانين الملكية الفكرية والتجارة والمنافسة، التي وفر إقرارها على مدى الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى انشاء منظمة التجارة العالمية في أول كانون ثاني/يناير 1995، امتيازات حصرية للدول الرأسمالية السبع الكبرى التي تقودها أمريكا.   

كلاوس شواب يتوفر، كما هو معلوم، على كنز وفير من المعلومات عن قادة العالم وكبار شخصياته النافذة، وعن دهاليز السياسات العالمية، كما هو حال أجهزة مخابرات الدنيا. لذلك كان على علم بخفايا ما كان يجري خلف الكواليس من صدامات جيوسياسية ساخنة بين محوري النظامين الدوليين، القديم المتصدع، والجديد الناشئ. لهذا قرأ في يوليو/تموز 2020، ما كان سيحدث في مطلع 2022. فكتب “إن خطراً حقيقيا للغاية يتمثل في أن العالم سيكون غداً، أكثر انقساما، أكثر قومية، وأقل انفتاحا واستعدادا للتعاون، وأكثر عرضة للصراعات مما هو عليه اليوم (وقت تأليف الكتاب في 2020)، مع أنه لا يمكن التقدم بدون هذا التعاون، كما يقول شواب ورفيقه.   

إنما من الواضح أن قراءته تنصرف، من دون أن يقرر ذلك أو يفصح عنه بنحو من الأنحاء، الى “الغرب الجماعي” (Collective west)، الذي لطالما فسر صيغة التعاون على مقاس مصالحه: سيادته مقابل خنوع بقية العالم لمشيئته، هو الذي يبدو اليوم في حالة هياج إذ يرى عالم الجنوب ينسل رويدا رويدا من تحت يديه، أو من تحت يدي “صيغته التعاونية”. على العكس من ذلك، نرى، ما لم يلحظه – في حينه؛ شواب ورفيقه – تدافعا على صيغ التعاون بين بلدان الجنوب العالمي “Global south”. لهذا هما يستدركان، ويطرحان البديل لذلكم الصدع الخطير والانقسام العمودي بين شمال لازال يعيش وهم تأبيد استعماره للجنوب، وبين جنوب واتته الفرصة التاريخية للانعتاق من ربقة دوّامته الاستعمارية. فيدفعان بإمكانية العمل الجماعي لمواجهة تحديات الفناء الجماعي لقاطني الكوكب الأزرق، وهي، كما يسردها المؤلفان (وكما هي في السردية الغربية السائدة المفروضة قسراً على بقية العالم)، التهديدات النووية، وتغير المناخ، والاستخدام غير المستدام للموارد الأساسية مثل الغابات والمأكولات البحرية والتربة السطحية والمياه العذبة، وتقاسم الغذاء.

ويفترض المؤلفان أن مشاهدة العالم للإخفاقات والمخاوف من كابوس انهيار الصدع على رؤوس الجميع، سوف تجبر، على الأرجح، جميع بلدانه (وقد كان حريٌ به أن يقول “سوف تجبر الغرب الجماعي”، أي أن يسمي الجهة المسؤولة عن تحول العالم من التعاون الى المجابهة)، على إحلال صيغة التعاون الجماعي محل المجابهة، والقبول الاضطراري بحتمية استبدال الأفكار والمؤسسات والممارسات والقواعد الفاشلة، بأخرى جديدة أكثر ملاءمة للحالة العالمية الراهنة.  

خدمة: themfadhel.com

* الدكتور محمد الصياد خبير اقتصادي بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية. عمل سابقاً ممثلا للبحرين في فريق مجلس التعاون المعني بملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في اطار منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة، وملف مفاوضات تغير المناخ. صدر له حديثا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون  “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.


الهوامش:

[[1]]  انظر: ايفان ويك “بغض النظر عن نظريات المؤامرة، هنالك شيء مريب حول إعادة التحوير العظيم”. الديموقراطية المفتوحة، 16 أغسطس/آب 2021. 

[[1]] راجع: كتاب “كوفيد – 19، إعادة التحوير العظيم”، كلاوس شواب وتيري ماليريه. مطبوعات المنتدى الاقتصادي العالمي 2020.