الكاتب: جمال زقوت
ظلّت ذكريات البيت وأنياب الجرافة تسكن مخيلتي، والمأساة أن تفاصيل هذا البيت الفقير الذي قدمته لنا وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، للعيش في ظروف غير إنسانية دون ماء أو مراحيض، باتت وكأنها الكون الذي انتزعت حياتنا منه، وقتها فهمت أن البيت الذي تلد وتكبر فيه هو وطنك مهما كان فقيراً، وكلاجئ هو كذلك إلى أن تعود للأرض التي انتزع والديك وأجدادك منها.
ظلّت تفاصيل البيت تلاحقني وشاخصة أمامي، هذا البيت الذي بُني وهدم دون أن يكون فيه ماء أو كهرباء أو مرحاض، وكم قضينا ساعات الليل نقرأ دروسنا على لمبة الكاز، أذكر يوماً أن فتيلة اللمبة قد انتهت فما كان مني سوى إشعال دفاية علاء الدين التي تعطي شعلة زرقاء، وكي تعطى ضوءاً أصفراً فتحتها ولكم أن تتخيلوا سخام الدخان الذي استقر في رئتي على مدار ساعات، وأنا الذي ما زال يتعافى من أزمة صدرية حادة.
بيوت المخيم غير قادرة على مواجهة أيام الشتاء القاسية حيث تجتاح المياه قاع الدار وتدخل أحياناً للغرف، كما أنني لا أذكر أن شتاءً واحداً في ذاك البيت قد مرت لياليه دون أن تبلل وسادتي من دلف الماء من بين حبات القرميد الإسمنتي الذي كانت تُغطى به أسطح هذه البيوت، هذه الظروف الصعبة ربما ولأسباب وراثية من والدتي هي التي كانت تفاقم مما أعانيه من أزمة، فأمي كانت أيضاً.
مريضة مزمنة بالأزمة وقد تطورت معها في أحد السنين لمرض السل، أذكر الوجوم والحزن الذي خيّم علينا عندما كان عليها أن تدخل مستشفى الأمراض الصدرية في منطقة البريج، وكيف ولأول مرة كان علينا أن نتذوق معها النبيذ الأحمر كمغذي مع أكل صحي وصفه الطبيب لأمي بعد خروجها من المستشفى.
هذا هو البيت الذي هدمته قوات الاحتلال، وألقت بنا بعد ذلك في العراء ليصبح هذا البؤس ذاكرة فخر واعتزاز يا للمفارقة !!! بعد أيام من جريمة هدم بيوت المخيم وبعد شهر من بدء الطوق و منع التجول عليه، حيث كشفت الصحافة الإسرائيلية ما يجري من تنكيل جماعي، تم رفع الحصار و منع التجول و عاد المخيم لطبيعته، و لكن دون البيوت التي هدمت واستمر منع إعادة بنائها حتى انسحاب الحكم العسكري وإعادة انتشار قواته من قطاع غزة عام 1994، بعد أيام أخرى استأجر والدي بيتاً من عائلة الغرباوي في شرق أطراف المخيم بالقرب من جامع المجادلة ويقع بالقرب من بيت عمي أبو مصطفي الذي كان مختار الزكاكته نسبة لعائلة زقوت، و كان شخصية مميزة و من المقربين لعصبة التحرر و الشيوعيين و كانت له كاريزما و هيبة و ثقافة مميزة تركت آثارها على كل من أتيحت له فرصة الحديث معه و كان هو يسعي دوماً لذلك، و يعطي له ما يستحق من الوقت.
لم يمر وقت طويل إلى أن علم صاحب البيت الذي استأجرناه أن أخي منير في السجن وقد يكون ذلك سبباً لهدم البيت الذي استأجرناه منه، فطلب منا إخلاء البيت أو شراءه، فلم يكن أمام أبي سوى أن يدبر أموره مستديناً ثمن البيت من صديقة لنا اسمها آن محمد سمور ليشتريه، ويقول أخي سمير أنه ساهم في تسديد هذا الدين عندما اشتغل أثناء اعتقال منير.
استكمل شارون خطته في توسيع الشوارع و هدم الكثير من بيوت المخيم، لأسباب إضافية وهي أن حركة الفدائيين والمقاومة تحولت لظاهرة واسعة و مع ظاهرة المطاردين تحولت لشبه علنية، تحكم المخيم و تسيطر عليه في النهار ولا تستطيع قوات الاحتلال من دخوله إلا في ساعات الليل، و في إطار العقوبات الجماعية و للضغط على الفدائيين اعتقلت سلطات الحكم العسكري الإسرائيلي عائلات المطاردين و نفتهم جماعياً إلى منطقة نخل في سيناء، و كان من أبرزهم مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هم الشهيد محمد صالح الملقب بحازم و الشهيد محمود جدوع و الشهيد عبد الحميد الجمل، و كان هؤلاء المجموعة القيادية المساعدة للشهيد محمد الأسود جيفارا غزة و الشهيد عبد الهادي الحايك و كامل العمصي بعد ان استشهد مسؤول المجموعة يوسف أبو غبن على يد زميله “أبو خوصة” الملقب بياو، والذي التحق بحركة حماس فيما بعد، و مجموعة ثانية ضمّت المرحوم أحمد طالب و محمد أبو كرش و المجموعة الثانية تابعة لقوات التحرير الشعبية التي أسسها الشهيد زياد الحسيني ، وكانت تضم الشهيد حسين حماد و الشهيد محمد جودة و الشهيد عدنان الحسني من غرب المخيم و رابع من عائلة السقا كان يسكن شرق المخيم، الشهيد محمد صالح و مجموعته استشهدوا في معركة قاسية بالقرب من مدرسة فلسطين الثانوية، و الثانية تم اعتقالها، و مجموعة قوات التحرير أيضاً، استشهدت في معركة ضارية في مدرسة سعاد الملاصقة لمدرسة الرمال الإعدادية، ثم فيما بعد استشهد جيفارا وعبد الهادي الحايك وكامل العمصي في معركة شرسة استخدمت فيها إسرائيل الصواريخ و طائرات الهليكوبتر، و قد استمرت المعركة، و التي جرت في بيت د.رشاد مسمار القريب من مستشفى الشفاء، حيث كان مخبأهم ، لعدة ساعات قاوم فيها الأبطال الثلاثة حتى آخر رصاصة رافضين الاستسلام إلى أن دمرت قوات الاحتلال المنزل عليهم.
في هذه الأثناء وفي نفس الفترة وبسبب الحملة الإعلامية ضد جريمة هدم بيوت المخيم استدعى ما يسمى ضابط ركن الإسكان في قيادة الحكم العسكري والدي وعرض عليه خيارات بيوت بديلة أحدها السكن في إحدى بيوت عائلات المطاردين المنفيين وجميعهم أصدقاء لوالدي وأبنائهم المطاردين أصدقاء لشقيقي بشير ومن ثم لشقيقي منير الذي ربما كان أحد أفراد مجموعاتهم المعتقلة مع جارنا حسين الملقب بالقادوس، ولكنّه لم ينهار ولم يعترف رغم التعذيب الشديد الذي كان يتعرض له المعتقلين في حينه.
بخبث شديد تظاهر والدي بالموافقة على اقتراح الحاكم العسكري أن يسكن في أحد بيوت عائلات المطاردين مشترطاً توفير حراسة عسكرية للبيت و لجميع أفراد الأسرة، فغضب الضابط من هذا الجواب، و بكل شجاعة قال له أبي لأنني لو كنت مكان المطاردين الذين تعرض علي بيوتهم فسأطلق النار على كل من يحتل بيتي ليسكن فيه مهما كان السبب، رفض والدي أيضاً اقتراحاً بتهجيرنا إلى قلقيلية، كما رفض لاحقاً اقتراحاً آخر بالموافقة على شراء و استلام بيتاً بديلاً في ما بات يعرف لاحقاً بمشروع الشيخ رضوان و الذي يضم وحدة سكنية من ثلاث غرف و مطبخ و حمامين مع حديقة صغيرة مبنية على مئتي متر خوفاً من اعتبار ذلك تخلياً عن صفة اللاجئ و بالتالي التخلي عن حق العودة، لأن الحكم العسكري كان يشترط على كل من يقبل الانتقال بأن يتم هدم بيته داخل المخيم …. يتبع
المصدر: جمال زقوت
تحرير: ولاء أبوبكر