سُئِلَت لبنى الشوملي من مركز بديل الفلسطيني، في تجمّع في دبلن بمناسبة يوم النكبة هذا العام، عن رأيها بخطط الحكومة الإيرلندية للاعتراف بدولة فلسطينية. وردّها بالمختصر: «هذه لعبة من الحكومة الإيرلندية لترضية مطالبكم. أنتم تطالبون بوقف إطلاق النار وفرض عقوبات. نحن نطالب بوقف إطلاق النار وفرض عقوبات. وبصرف النظر عن شكل الدولة المتخيّل في ذهن هؤلاء، كيف لهذا الاعتراف أن يوقف إطلاق النار ويفرض عقوبات؟ لن يستطيع».
شدّدت الشوملي على حقيقة أنّه في مواجهة العنف الإبادي الهائل والبنيوي، لا قيمة للخطوات الرمزية والكلمات القوية في نهاية المطاف إذا لم يعضدها شيء. فالتدخلات الخالية من أي تأثير مادي أو كلفة ملموسة لن تؤثِّرَ في دولة عسكرية في خضم حرب تصفية وتطهير عرقي. والواقع أنّ المشكلة ليست محصورة، كما أكّد محمد الكرد، بأنّ «الاعتراف المحض» غير كاف إذا لم يصحبه أي عقوبات ملموسة، بل أنّ خطوات رمزية كهذه تُتَّخَذُ في غالبية الحالات عن عمد وبالتحديد للتهرّب من اتخاذ أي إجراءات مادية من أي نوع.
خطوات رمزية كهذه تُتَّخَذُ في غالبية الحالات عن عمد وبالتحديد للتهرّب من اتخاذ أي إجراءات مادية من أي نوع
عند التفكير إذن في مجموعة من التحرّكات الرمزية من مختلف الجهات في الأشهر الأخيرة بداية من الاعتراف بدولة فلسطينية من قبل مجموعة صغيرة من الحكومات الأوروبية، ومروراً بالإدانات القوية للإبادة الجماعية الإسرائيلية من قبل قادة أميركا اللاتينية، وإلى رفع جنوب أفريقيا القضية التاريخية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية وما إلى ذلك، لا بد أن نتساءل عمّا لا تفعله تلك الدول والقادة رداً على حملة الإبادة الإسرائيلية في غزة ونظام التمييز العنصري القائم منذ زمن طويل على كامل فلسطين التاريخية. وفي ظل هذه الاستعراضات السياسية والدبلوماسية والقضائية، أيُّ الأدوات الاقتصادية لا تُستخدَم؟ وكيف نفهم الاقتصاد السياسي للعلاقات التجارية «الطبيعية» مع كيان الإبادة الجماعية بينما يواصل ارتكاب المذابح اليومية؟ وأين يمكن أن نبحث عن علامات على المزيد من الردود المادية المناهضة للإمبريالية؟
تبرز هذه الأسئلة إلى الواجهة تناقضات صارخة، فمعظم دول العالم اعترفت بفلسطين منذ إعلان الجزائر 1988، لكنّها بالمقابل أبقت على علاقات تجارية واقتصادية طبيعية مع إسرائيل. وينطبق هذا على حكومات تتّخذ موقفاً داعماً لفلسطين على المستوى الخطابي – سواء كانت على شاكلة مواقف إسبانيا وإيرلندا في الغرب الإمبريالي أو جنوب أفريقيا والبرازيل في الجنوب العالمي – وبصرف النظر عن السياق الزمني: الانتفاضة أو الضم أو الإبادة.
بين الاعتراف والتزويد بالذخيرة
جرى الاحتفاء بإسبانيا وأيرلندا بوصفهما من القلة القليلة التقدّمية المنحازة لفلسطين في السياق الأوروبي على أساس تصريحات ومواقف صدرت عنهما. اعترف البَلَدان بالدولة الفلسطينية (الشبحية) في أواخر أيار/مايو 2024. وقدَّمت إسبانيا في حزيران/يونيو مداخلتها إلى محكمة العدل الدولية في قضية جنوب أفريقيا ضدّ الإبادة الإسرائيلية، وتعهّدت إيرلندا بالقيام بالمثل. وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز حادّاً في انتقاداته للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أما الزعيم الإيرلندي سيمون هاريس فقد صرّح قائلاً: «رئيس الوزراء نتنياهو، نحن مشمئزون من أفعالك».
وهذا الاحتفاء بقادة نيوليبراليين من حزب تاريخي رجعي وتقسيمي كحزب «فاين غال» التابع له سيمون هاريس لموقفهم من فلسطين، يبدو مقززاً من المنظور الإيرلندي في الأقل. وهو يخفي الفجوة الهائلة بين التعاطف الحقيقي لدى معظم الإيرلنديين تجاه النضال الفلسطيني والخطاب السطحي للطبقة الحاكمة. لكنّ الإشكالية الأكبر ليست هذه الفجوة، بل تزامن الدعم الظاهر للدولة الإيرلندية للفلسطينيين مع استمرار العلاقات الاقتصادية مع الدولة الإسرائيلية وتوسيعها.
أيرلندا، صاحبة المرتبة 120 في العالم من حيث عدد السكّان، تمثّل الآن رابع أكبر سوق تصدير عند إسرائيل، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى المكانة الخاصة لكلا البلدين في الاقتصاد التكنولوجي العالمي والمستويات العالية من التجارة في الرقائق والمكوّنات الإلكترونية. وهذا الوضع يجعل إسرائيل سابع أكبر مصدر للواردات في إيرلندا، ومن بينها واردات المسيّرات العسكرية التي تشتريها الحكومة الإيرلندية من الشركات الإسرائيلية الحكومية ومن أكبر شركة أسلحة في إسرائيل، شركة إلبيت سيستمز. في الربع الأول من العام 2024 وحده، تضاعفت طلبات الشراء الحكومية الأيرلندية لعقود المسيّرات الإسرائيلية مقارنة بإجمالي العام 2023. ومن الجانب الآخر، في أوائل العام 2024، بينما كانت إيرلندا تجادل في الرأي الاستئناسي في محكمة العدل الدولية بأنّ جميع الدول ملزمة بوقف التجارة التي تعزّز استيطان وضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية، زادت صادرات إيرلندا إلى إسرائيل بنسبة 28% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023.
تتضمّن الصادرات الإيرلندية إلى إسرائيل مجموعة كبيرة مما يُعرف بالسلع «ثنائية الاستخدام»، وهي منتجات أو خدمات أو تكنولوجيا لها استخدامات مدنية وعسكرية على حد سواء. شكّلت هذه السلع، في العام 2023، 13.5% من إجمالي الصادرات، أي بزيادة تقارب 7 أضعاف من 2022 إلى 2023، مع ملاحظة أنّ الزيادة الكبيرة جاءت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. واستمرّت الحكومة الإيرلندية في إصدار تراخيص جديدة لتصدير السلع ثنائية الاستخدام إلى إسرائيل في العام 2024 بينما تتواصل الإبادة الجماعية في غزة. وبحسب الحكومة الإيرلندية، لم يجرِ رفض أي طلبات لتراخيص السلع ثنائية الاستخدام في خلال هذه الفترة، ويقول عدد من الوزراء (من دون تقديم أي تفاصيل) إنّهم يقومون بجميع المراجعات والتقييمات اللازمة للتأكد من امتثال المستخدِم النهائي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني. لذا، تؤكّد الحكومة أنّ ليس لديها أي مشكلة مع بيع المعدات والتكنولوجيا ثنائية الاستخدام لدولةٍ ترتكب فظائع جماعية على مستوى كارثي.
خلف كل هذا التردّد في القيام بأي تعطيل مادي للعلاقات التجارية مع إسرائيل يكمن واقع الاقتصاد السياسي لنظام الرأسمالية الكمبرادورية في إيرلندا
إلى جانب هذه الصادرات المباشرة، تدعم الدولة الإيرلندية إسرائيل اقتصادياً من خلال صندوق الاستثمار الاستراتيجي الذي يمتلك استثمارات في مجموعة من الشركات المدرجة في القائمة السوداء للأمم المتحدة للشركات المتورطة في المستوطنات الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن الحكومة التزمت أخيراً بالتخلي عن بعض هذه الشركات (وهي تواجه دعوى قانونية تدعي أن استثماراتها في مشروع الاستيطان الاستعماري تنتج إيرادات تشكِّل نفسها عائدات متأتية من جرائم)، فإنّها تواصل الحفاظ على استثماراتها في شركات أخرى مدرجة في القائمة السوداء للأمم المتحدة. وعلى مدار السنوات الأخيرة، قامت الحكومات الإيرلندية المتتالية بقيادة حزب «فاين غال» بتجاهل المبادرات التشريعية من أعضاء المعارضة لحظر التجارة مع المستوطنات وسحب الاستثمارات من الكيانات الاستيطانية. ومؤخراً، عطّلت الحكومة مشروع قانون حظر الأسلحة المصوغ لتقييد نقل الأسلحة وتصديرها من إسرائيل وإليها عبر إيرلندا وضمان التفتيش الصحيح للطائرات الأميركية التي تتوقّف رحلاتها حالياً في إيرلندا من دون عوائق أو تفتيش. والحال أنّ نقل الأسلحة عبر الأراضي الإيرلندية محظور بالفعل بموجب التشريعات القائمة، ولكن منذ حرب العراق مُنِح الجيش الأميركي تصريحاً مطلقاً في مطار شانون، وتمنح الحكومة آلاف الإعفاءات السنوية لتجنّب عمليات التفتيش للولايات المتحدة وألمانيا.
خلف كل هذا التردّد في القيام بأي تعطيل مادي للعلاقات التجارية مع إسرائيل يكمن واقع الاقتصاد السياسي لنظام الرأسمالية الكمبرادورية في إيرلندا. يتمثل هذا النظام في دور الدولة الإيرلندية كملاذ ضريبي من جهة وكقناة لاقتصاد التكنولوجيا الأميركي ودوراته الرأسمالية من جهة أخرى، ودرجة اعتماد الطبقة الحاكمة الإيرلندية على الاستثمارات الأميركية. حين تضغط غرفة التجارة الأميركية أو أحد وزراء التجارة في الولايات الأميركية على القادة الإيرلنديين لعدم حظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية، يكون لهذا الضغط التأثير المطلوب غالباً. وتكون النتيجة استمرارَ نهج «الأعمال كالمعتاد» في التجارة مع إسرائيل، حتى في الوقت الذي تصعّد فيه إسرائيل قصفها الإبادي لمناطق «آمنة» في قطاع غزّة وتفرض المجاعة والتجويع على الشعب الفلسطيني.
والدولة الإسبانية، على غرار إيرلندا، استمرت في علاقاتها التجارية الطبيعية مع إسرائيل. وحين يتعلق الأمر بتجارة الأسلحة تحديداً، فقد زادت صادرات الأسلحة الإسبانية إلى إسرائيل بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مقتربة من مستويات قياسية في العام 2023. وعلى الرغم من ادعاءات الوزراء الإسبان بوقف تراخيص تصدير الأسلحة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، واصلت إسبانيا بالفعل تصدير الذخيرة إلى إسرائيل. يشير تحليل حديث من مركز دراسات السلام إلى أنّ «العلاقات العسكرية بين إسبانيا وإسرائيل بقيت على حالها كما كانت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر»، وتواصل إسبانيا أيضاً الحصول على الأسلحة من إسرائيل «كما كانت تفعل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر». وهنا يكون تساؤل يارا هواري في محله: «ما معنى الاعتراف بدولة شعب ما بينما تظل متواطئاً في تمويل وتسليح وتجهيز النظام الذي يدمر هذا الشعب؟»
بين المقاضاة والعلاقات الرأسمالية
في حين صُنِّفت إيرلندا وإسبانيا وعدد قليل من الدول الأخرى كأصوات خارج سرب السياسة الخارجية الأوروبية السائدة تجاه فلسطين، جاء النقد الأقوى لإسرائيل من الجنوب العالمي. لاقت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية المتعلّقة بالإبادة الجماعية، إلى جانب الأحداث ذات الصلة – كالانتقادات اللاذعة من ناميبيا لعدم قدرة ألمانيا على تعلّم دروس تاريخها الإبادي، وقضية نيكاراغوا ضدّ التواطؤ الألماني – ترحيباً بوصفها انقطاعاً تاريخياً وتحويلياً في السياسات والهياكل الهرمية السائدة في القانون الدولي. وفي رأي الكثيرين، تجسِّد هذه الإجراءات رفض الجنوب العالمي لقبول الهيمنة المؤسسية للقوى الإمبريالية الغربية. وكما أشار بالاكريشنان راجاغوبال: «إنّ قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية نذيرٌ بنظام عالمي جديد تقوده الشعوب التي كانت مضطهدة ومستعبدة في السابق. إنّها لحظة أمل حقيقية لنهج العالم الثالث في القانون».
بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين وغيرهم ممن يعانون من العنف الإمبريالي، يكمن «مكر» القانون الدولي وأمر محكمة العدل الدولية في إيهامهما بأنّهما يفعلان شيئاً درامياً ومدمّراً من دون المساس الفعلي بهياكل السلطة المادية
هذه السرديات مقنعة وصحيحة في كثير من النواحي. وهي بالطبع قصة مغرية للتمسّك بها في مثل هذه الأوقات العصيبة. بعد الأمر الأولي لمحكمة العدل الدولية في كانون الثاني/يناير 2024، واصلت جنوب أفريقيا دعم قضيتها بتقديم الكثير من الطلبات لمزيد من التدابير المؤقتة؛ مع تقديم مذكرة طويلة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة توثق نية إسرائيل الإبادة الجماعية في غزة وتدعو المجلس إلى تنفيذ أوامر محكمة العدل الدولية؛ ومع وعود باعتقال ومحاكمة مزدوجي الجنسية العائدين من القتال في الجيش الإسرائيلي في فلسطين أو إلى جانبه.
لكن بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين وغيرهم ممن يعانون من العنف الإمبريالي، يكمن «مكر» القانون الدولي وأمر محكمة العدل الدولية في إيهامهما بأنّهما يفعلان شيئاً درامياً ومدمّراً من دون المساس الفعلي بهياكل السلطة المادية. فمع الصدى العميق لاستدعاء جنوب أفريقيا «ما بعد» الفصل العنصري لإسرائيل إلى المحكمة بسبب فظائعها الإبادية، لا يمكننا تجاهل حقيقة أنّ جنوب أفريقيا لا تزال أكبر شريك تجاري لإسرائيل في القارة الأفريقية. وعلى الرغم من الضغط الكبير من الحركات الاجتماعية قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبعده، رفضت الحكومة الجنوب أفريقية حظر التجارة أو قطع العلاقات المالية أو فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل. حتى على الصعيد الدبلوماسي، حين صوّت البرلمان الجنوب أفريقي لصالح إغلاق السفارة الإسرائيلية وطرد السفير في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، اختارت السلطة التنفيذية عدم تنفيذ القرار.
بمعنى آخر، استمرت جنوب أفريقيا في الانخراط في علاقات دبلوماسية واقتصادية مع دولة اتهمتها مراراً وتكراراً وبشدّة بارتكاب إبادة جماعية في قضية واحدة أمام محكمة العدل الدولية، وبارتكاب «فظائع على غرار الفصل العنصري» في قضية أخرى. وعلى عكس الاستنتاج المنطقي لادعاءاتها، تعامل جنوب أفريقيا إسرائيل كشريك تجاري طبيعي بينما تناشد محكمة العدل الدولية بعبارات وجودية لتفعل «الآن – وقبل فوات الأوان – كل ما في وسعها» لمنع التجويع الجماعي في غزة.
لا بد لنا من أن نفهم الطبيعة «المربكة» للعلاقة بين جنوب أفريقيا وإسرائيل في سياق التزامها النيوليبرالي بالتجارة الحرة، وإدراكها للديناميات الأوسع لرأس المال العابر للحدود وتدفقات الاستثمار، لا سيما مع التركيز على الحفاظ على علاقة جيدة مع الولايات المتحدة التي تبدو متشكِّكة بالفعل. يضع علاء حاج يحيى وريشار كولاباي شيئاً من هذا في إطار العلاقة مع الميول الاستعمارية الجديدة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي وافتقاره إلى الشرعية المحلّية. فالحزب بحسبهما «يمكنه أن يعبِّر عن اشمئزازه من الإبادة الجماعية من دون أن يحدِّد صراحة مزيداً من الترتيبات القانونية أو المؤسسية أو السياسية الاقتصادية» لكيفية إعادة هيكلة السلطة والعلاقات الاجتماعية في جنوب أفريقيا نفسها أو في أي مكان آخر.
منذ الطلب الرابع والأحدث لجنوب أفريقيا للحصول على تدابير مؤقّتة من محكمة العدل الدولية في أيار/مايو 2024، خسر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي أغلبيته، ويقود الآن ائتلافاً واسعاً تغلب عليه التوجّهات اليمينية ويشمل أحزاباً ذات مواقف صهيونية معلنة. وبينما احتفظ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بالوزارات الرئيسة ووعد بأنّ يظل ملتزماً تماماً بفلسطين وقضية محكمة العدل الدولية، فإنّ ممثلي المعارضة يتهمون الحزب بتخفيف موقفه تحت إشراف أكبر شريك في الائتلاف، حزب التحالف الديمقراطي. في الواقع، زعيم التحالف الديمقراطي، جون ستينهايزن، سبق له أن شكّك في صحة قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها دولته ضد إسرائيل بعبارات لها دلالتها: «إبادة امرئٍ حريةُ امرئٍ آخر».
تغذية الإبادة
على غرار إيرلندا وإسبانيا في أوروبا أو جنوب أفريقيا وناميبيا في السياق الأفريقي، كانت دول كالبرازيل وكولومبيا في طليعة إدانة الإبادة الجماعية الإسرائيلية من أميركا اللاتينية. لكن على عكس بعض الدول الأخرى، بدأت سياسة كولومبيا الاقتصادية تتماشى مع خطابها.
في خلال الأشهر التسعة الماضية، هيمنت على المناقشات السياسية الدولية الدعواتُ لفرض حظر على الأسلحة أو تعليق تراخيص تصدير الأسلحة. وهذه الدعوات أنجع في سياق القوى الغربية التي تزوّد إسرائيل بالأسلحة والطائرات المقاتلة، وكذلك الدول والموانئ التي قد تكون قادرة على منع مرور «شحنات الموت» وتسليم ذخيرتها. ولكن العمّال الفلسطينيين والنقابات والجماعات البيئية طالبوا أيضاً بفرض حظر عالمي طاقوي كامل على إسرائيل لقطع خطوط الإمداد التي تحافظ على استمرار آلة الحرب والاقتصاد الحربي.
وعلى الرغم من ذلك، استمرّ تدفق الوقود الأحفوري إلى حد كبير. وهذا يشمل وقود الطائرات المخصّص للطائرات الحربية الإسرائيلية «لتمطر الموت والدمار على قطاع غزة»، وكذلك النفط الخام الذي تقوم إسرائيل بتكريره محلياً لتزويد الجيش بالطاقة. يأتي الكثير من هذا النفط من دول شبه طرفية ودول من الجنوب العالمي. وباستثناء الولايات المتحدة، أتت واردات النفط والوقود إلى إسرائيل منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 من أذربيجان والبرازيل والغابون وكازاخستان وروسيا. كما ظلت إسرائيل تتلقى شحنات «صغيرة ولكن منتظمة» من الخارج عبر خط أنابيب سوميد في مصر الذي ينقل النفط الخام من السعودية والإمارات.
قد يكون لحظر الفحم الكولومبي أيضاً مضاعفات أخرى. إذ يشي بزعزعة الشعور بالاتفاق الضمني السائد «بعدم جواز المساس بالتجارة»، حتى للدول التي تربطها علاقات عدائية مع إسرائيل
في العام 2022، كانت البرازيل ثاني أكبر مورد للنفط الخام لإسرائيل بعد أذربيجان، حيث وفّرت 28.6% من إجمالي وارداتها. وعلى الرغم من الإدانات الشديدة لجرائم إسرائيل منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 من قِبَل الرئيس لولا، فقد أُرسِلَت شحنات كبيرة من النفط الخام البرازيلي إلى إسرائيل في كانون الأول/ديسمبر 2023 وشباط/فبراير 2024، بينما كانت الإبادة الجماعية تتصاعد ومعبر رفح تحت الحصار. هنا، لم تتوقف سلاسل إمداد السلع المادية ومصادر الطاقة التي تغذي الدولة الإسرائيلية وجيشها على الرغم من اللغة القوية.
لكن في كولومبيا أثبت نجاحُ حملة حظر الطاقة وجودَ طريقة أخرى ممكنة. في حزيران/يونيو 2024، «بعد شهور من محاورات الحكومة الكولومبية وتحالف من المنظّمات الفلسطينية والكولومبية، بينها نقابة عمّال المناجم والجماعات الأصلية»، أصدر الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو مرسوماً يقضي بتعليق جميع صادرات الفحم إلى إسرائيل. والتأثير المادي لهذا الإجراء مهم بحد ذاته. إذ يعتمد ربع إنتاج الكهرباء الإسرائيلية على الفحم، وكانت كولومبيا أكبر مورد لإسرائيل، فمنها تأتي 60% من حاجة إسرائيل من الفحم. على الفور، بحثت إسرائيل عن موردين بدلاء لملء الفراغ، وتلقت بحسب تقارير عدّة «استجابات إيجابية من دول من بينها جنوب أفريقيا وروسيا»، وهما أكبر موردي الفحم لإسرائيل بعد كولومبيا.
بالإضافة إلى تأثيراته المباشرة، قد يكون لحظر الفحم الكولومبي أيضاً مضاعفات أخرى. إذ يشي بزعزعة الشعور بالاتفاق الضمني السائد «بعدم جواز المساس بالتجارة»، حتى للدول التي تربطها علاقات عدائية مع إسرائيل. وكما يوضح شير هيفر، تواجه إسرائيل بالفعل «كارثة اقتصادية» على خلفية هجومها على قطاع غزة: انخفاض في الاستثمارات الأجنبية؛ وعشرات الآلاف من الأعمال التجارية المفلسة؛ فرار العمّال والرأسماليين بأعداد قد تكون كبيرة؛ قيام الإسرائيليين بنقل استثماراتهم ومعاشاتهم التقاعدية إلى صناديق في الخارج لعدم ثقتهم في النظام المالي الإسرائيلي. القطاع الوحيد في الاقتصاد الإسرائيلي الذي يزدهر هو، بشكل غريب ولكن ليس مستغرباً، قطاع صناعة الأسلحة. وحين يتعلق الأمر بوسائل الإنتاج وقطاع التكنولوجيا، حامل علامة إسرائيل التجارية «أمة الشركات الناشئة»، يشير هيفر إلى المخاطر الناجمة عن حظر الفحم الكولومبي وتأثيره المحتمل على ضمان إمدادات الكهرباء واستمراريتها: «لا تعمل مزارع الخوادم بلا كهرباء على مدار 24 ساعة، ولا أحد يعرف عدد انقطاعات الكهرباء التي يمكن لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلي أن يتحمّلها».
من الواضح أنّ الأمور الآن عند نقطة حرجة في الاقتصاد الإسرائيلي والصهيونية نفسها، وهذه «لحظة فريدة لتحرير فلسطين». سارع النشطاء الفلسطينيون إلى دعوة دول مثل جنوب أفريقيا وغيرها لـ «اتباع نهج كولومبيا» في الانضمام إلى حظر الطاقة وقطع العلاقات التجارية الأخرى. هكذا، تواجه الدول التي تدعي التضامن مع الشعب الفلسطيني الاختبار الحقيقي المتمثل في اختبار استعدادها لانتهاج هذا النهج، والذهاب إلى ما هو أبعد من الإدانة الرمزية والمبادرات الشكليّة، وفرض عواقب مادية على نظام التمييز العنصري والإبادة الجماعية.
كتب/جون راينولدز
ترجمة:علاء بريك هنيدي
نُشِر هذا المقال
في The Law and Political Economy project في ، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع صفر