20 سبتمبر، 2024
نابلس - فلسطين
لن تنام البروة في ليلة اغتصابها…
المدونة

لن تنام البروة في ليلة اغتصابها…

الكاتب: الإعلامي جمال ميعاري

سؤالان طرحهما علي ذلك الراحل الكبير في زمنين أو بين طلتين… وربما رحلتين باعد بينهما وبيننا الكثير من الشوق… سؤالان كبيران بجوهرهما وبمن قذفهما علي في وقت كنت فيه بكل نشوتي بقوتي بجبروتي وبضعفي أمامه….

لم يترك لي مجالا لفسحة مع الذاكرة… حاصرني بعينيه… بحدته… بانتظاره… بردة فعله… بزيه بعقاله بسرواله بهامته بجبروته… حاصرني بحضوره وليس أكثر….

كان الوقت صيفا… قليل من المساء مع غروب الشمس أو قبلها كثيرا… نسمات هواء تحل محل أدوات أطفال تائهة ضائعة منسية لم تدون في سجلاتنا لأننا أبناء مخيم… فأنا لا يلتم شملي إلا مع العائدين إلى نصف وطن… وكل حضن… وقليل من جبن وزعتر أمي…

داهمني بالسؤال على حين غرة…. وكأنني لا زلت في منتصف ليل أتبادل أطراف الحديث مع جار على بعد رمشة عين في مخيم تضيق به الجدران وتتسع في القلوب لأهله…

ولكلاب تعيث بالليل فسادا…
كلاب من كل نوع… سوداء… زرقاء وخضراء…
جميلة هي بحاضرها المدعى لكنها جوقة كلاب وكثيير من الخنازير….

فاجأني أبي… اعتقدت أنه يرواغني… ورحلت لوهلة في ملاعب إسبانيا… رأيت ميسي وتلاعبه الخلاب بكل شيء حتى في كرة القدم… وصمتت أمام جبروت رونالدو… ولم أنس كارلوس وريفالدو وغونزاليس لأني عصي على النسيان… فأنا لا زلت أذكر بعض العابرين بدون تأشيرة سفر فكيف لي أن أنسى وطن…

خفت قليلا وارتعشت أكثر … ونظرت إلى نفسي لكنني عدت إلى جسم يكاد أن يكون قويا… ابتسامته الملونة تريد أن توحي بشيء يكسرني أو ربما يأسرني… ويبادرني بالسؤال؟
أي أطفالك أحب أو أقرب إليك؟
فاجأني… أخذني إلى عالم آخر… إلى عالم ربما كنت أبحر ولا زلت أبحر فيه… وكأنني في غيبوبة… خارج المكان والزمان… بتت مجرد ظل لسؤال أبحث عن جواب له…

استحضرت سلاحي وعدت هناك… إلى رحم أمي وقولها: الصغير حتى يكبر… والمريض إلى أن يشفى… والمسافر إلى أن يعود….

صيف آخر ورحلة أخرى ولقاء مع الراحل الكبير… ذات المكان وذاك الغروب الذي أعشقه…. وكثيييير من الجبن والزعتر… وأقل من ذلك من الأحضان…. ومجرد شيء اسمه ما تبقى من وطن…. حوله كثيييير من الأشياء تسمى مستوطنات… تأوي كلابا ملونة زرقاء وسوداء وخضراء…

وسألني: لو عادت البلاد ستعود إلى البروة؟
فاجأته بردي ولا زلت أعتذر… وماذا ينتظرني هناك… وماذا لي هناك… أنا ابن مخيم العين… أنا أول المسجلين في اللجوء… أنا كنت ولا زلت رقم واحد في دفاتير الأونروا… ولا أريد أن أخسر كل مدخراتي….
رحل الكبير دون أن يودعني… دون أن أعتذر عن مدخراتي عن سجلاتي عن تاريخي… دون أن أقول له وداعا.

أعذرني أبي فأنا ابن مخيم وشهادتي تسجل انني أول اللاجئين… لكني أريد العودة إلى رحم أمي وحضن أبي هناك في البروة بعد أن أنهي صهيل الخنازير وتعود البروة إلى أهلها وأسمع أنشودة أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي.