23 نوفمبر، 2024
نابلس - فلسطين
عودة لطفولة و بؤس المخيم (5)
المدونة

عودة لطفولة و بؤس المخيم (5)

الكاتب: جمال زقوت

انتقلت لمدرسة غزة الجديدة الإعدادية، و هي مدرسة تابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، و تقع في المنطقة جنوب شرق المخيم في الطريق الذي يربطه مع مستشفى الشفاء، و كان يحيى الشريف مدير المدرسة، حيث كان رجلاً تربوياً و رياضياً متميزاً، و كان حكماً دولياً لكرة القدم، وأستاذ اللغة العربية صالح زقوت من المجدل و لكنه كان قريب للأهل و تربطه صداقة مع والدي، كما كان مقرباً من الشيوعيين.

لعب الأستاذ صالح “أبو مازن ” دوراً مفصلياً في تحول حياتى و انتشالي من أنياب مرحلة الخوف من رهاب عذاب القبر و الآخرة، ويبدو أن الأستاذ صالح اكتشف رغبتي وشغفي في حب القراءة، و بدأ يعطيني من مكتبته روايات دار التقدم عن الحرب السوڤيتية الوطنية العظمى، كالأخوة آيغناتوف و غيرها، ثم رواية كيف سقينا الفولاذ، للكاتب نيكولاى اوستروفسكي، وهي من روائع الأدب الروسي و قد ترجمت إلى 56 لغة، تتحدث الرواية عن قصة بطولة طيار فقد قدميه عندما أسقطت طائرئه المقاتلة، إلا أنه أصرّ و بعناد شديد على أن يعود للطيران بعد شفائه.

رواية مشوقة جداً لدرجة انني أكملت الجزئين اللذين يقعا في أكثر من ستمئة صفحة من القطع المتوسط في ليلة واحدة، فهي تشدك و كلما تعبت وحاولت تركها للنوم تجتاحني رغبة جامحة للعودة و استكمال قرائتها و معرفة ما سيحدث.

و في اليوم التالي أعدتها للأستاذ صالح الذي شك انني أكملتها ولم يصدق إلا بعد أن طلب مني أن أُلخص مضمونها لطلاب الصف، و ظلّ مستغرباً ليس فقط كيف أكملتها في ليلة واحدة، بل و كيف استوعبت خلاصتها و جوهرها، فاستمر يمدني بهذه الروايات العظيمة التي شدتني و ساهمت في بداية بلورة شخصيتي ليس فقط الفكرية، بل و سمات الجدية و الإصرار و الإرادة و الطموح و الثقة بالنفس و الإنتصار التي كان يجسدها أبطال تلك الروايات، لا سيما وأن وعياً وطنياً بدأ أيضاً ينهض داخلي، بأننا كشعب يعيش في مخيمات البؤس بعد أن اغتصبت أرضه، والآن و بعد حرب عام 1967 يطبق الاحتلال على كامل هذه الأرض و يسيطر على كل شؤون حياته؛ عليه أن يواجه هذا المصير كما فعلت شعوب الاتحاد السوڤييتي.

نعم، بدأ اهتمامي بالدراسة و تفوقي الواضح فيها يتضح فلا أقبل بأقل من الأول على المدرسة وبدأ التنافس الممتلئ بالجدية و التحدي و ربما الغيرة و الرغبة بالتميز يحدد لي و لجيل كامل الطريق الذي علينا أن نسلكه لنتمرد يوماً على واقع البؤس و اللجوء، و كان نخبة مميزة من الأساتذة الوطنيين و من مشارب فكرية مختلفة يحيطون بنا و يعطون من وقت الحصص ما يكفي لتعزيز القيم و المبادئ و التربية الوطنية، أذكر منهم تحديداً أستاذ اللغة الإنجليزية إلياس عزام و أستاذ العلوم رباح الشوا و أستاذ الرياضيات عمر صلاح.

هكذا بدأت ملامح شخصيتي الأولية تتكون بمزيج من الفكر التقدمي اليساري و القومي العلماني و المنفتح دون إنغلاق، و يبدو هكذا، و دون جدل عقيم انتشلت بسلاسة من مربع رهاب الآخرة و تعذيب القبر و سطوة أستاذ الدين إلى مربع آخر بديل يملأني بالفخر و الكرامة و الثقة بالنفس.

مرحلة الإعدادية كانت مرحلة الإنطلاق بعيداً عن المرض و الخوف من الترهيب الديني، و استمريت في عادة حب القراءة و الاحتكاك بأصدقاء دوماً أكبر من سني، حيث تفتحت عيناي على ما يقوم به الإحتلال و ما تعرضت له عائلتي بصورة مباشرة.

و بعد هزيمة 67 كان أخي الأكبر بشير في الثاني الثانوي و كان متميزاً في المدرسة و ناشطاً اجتماعياً و رياضياً في نادي خدمات مخيم الشاطئ، ولا أعرف لماذا قرر و بموافقة والدي أن يغادر متسللاً عبر الضفة الغربية و يقطع النهر للأردن، ربما لضمان استكمال دراسته و الإلتحاق بالجامعة، و أذكر أنه عاد متسللاً ثم غادر بعد أيام و كان ينام في بيت خضر الغول صديقه و زميله في المدرسة و النادي، وكان بشير نموذجاً لنا في كل شئ، و سيرته اللاحقة تركت أثراً كبيراً على مسار حياتي و درجة الاستعداد للتضحية التي شربنا إياها بحديثه وسلوكه ولاحقاً برسائله، كما ساهم بصورة غير مباشرة في تحديد وحسم خياراتي السياسية والوطنية التي رسمت مسيرة حياتي لسنوات طويلة.

أكمل بشير دراسة التوجيهي في قطر و التحق بالمعهد العالي للتكنولوجيا في شبين الكوم بمصر، و لكن سرعان ما أبعدته السلطات المصرية بسبب نشاطه السياسي في الجبهة الشعبية بعد موافقة مصر على مبادرة روجرز عام 1969.

في مخيم الشاطئ ومنذ اليوم الأول للاحتلال بدأت تتكون خلايا عسكرية للمقاومة من خلال بقايا جيش التحرير حيث تأسست قوات التحرير الشعبية، و من ثم أسس القوميين العرب الجبهة الشعبية، و فيما بعد تأسست الجبهة الوطنية في قطاع غزة التي انخرط فيها عدد من الشيوعيين.

و بعد الحرب مباشرة فرضت قوات الاحتلال منع التجول على المخيم و جمعت كل من يزيد عمره عن أربعة عشر عاماً في ساحة الشوا شمال المخيم، و طلبت منهم أن يسلموا ما لديهم من أسلحة، طبعاً لم يسلم أحد سلاحه فأعلن القائد الإسرائيلي أن الجيش سيفتش البيوت و كل بيت يوجد به سلاح سيتم نسفه، و استكمل المسرحية بنسف بيتين على تخوم المخيم و محاذيين للساحة التي جمع بها شبان و رجال المخيم.

و بعد أن نسفهما كرر طلبه بالذهاب مرة ثانية للبيوت لتسليم السلاح و إلا فالجيش سيواصل التفتيش و الاستمرار بنسف البيوت، انتهت العملية بتجميع و مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة و كذلك اختيار أعداد واسعة من الشبان و ترحيلهم لما بعد قناة السويس التي كانت قوات الاحتلال قد أطبقت عليها باحتلال كل سيناء….يتبع.

ملاحظة: هناك أحداث تفصيلة و وصف للشخصيات و المكان لايتسع و لا يحتمل نشرها على الفيس بوك سأقوم بالتوسع التفصيلي و الأمين، عندما أصل للنهاية و صياغة النص النهائي للنشر الورقي، حتي تستحق السردية أنها بوح المخيم.

صورة شقيق جمال زقوت وهو الشهيد بشير ، وهو في جامعة شبين الكوم بمصر
صورة شقيق جمال زقوت وهو الشهيد بشير ، وهو في جامعة شبين الكوم بمصر
صورة أرشيفية لأطفال المخيم
صورة أرشيفية لأطفال المخيم
صورة شخصية لجمال زقوت وهو بالصف السادس
صورة شخصية لجمال زقوت وهو بالصف السادس

المصدر: جمال زقوت

تحرير: ولاء أبوبكر