21 نوفمبر، 2024
نابلس - فلسطين
عودة لطفولة و بؤس المخيم (3)
المدونة

عودة لطفولة و بؤس المخيم (3)

الكاتب: جمال زقوت

تركزّت محاولات أستاذ الدين عليّ لاصطيادي في فخ الترهيب، و نجحت كما يبدو في أن تنقلني خطوة إضافية في مسيرة الترهيب نحو سلم الإنهيار العقلي، فأصبحت ملتزماً بزاوية الشيخ إبراهيم الخالدي صاحب الطريقة الشاذل الملاصقة تقريباً لجامع الشيخ موسى غبن الأزهري، و قد كان جارنا وابن جيلي تقريباً إسماعيل هنية أيضاً أحد روادها. يومياً و في ساعة ما بعد الغروب نلتقي نخبة من الأطفال و الشبان الصغار المميزين في الزاوية، وتبدأ حلقة الذكر بكلمتين ” الله حيّ” ثم تبدأ حلقة “الدوشة و التي تشبه الرقص الجسدي و الروحي” دون أي تفكير ، كان الشيخ إبراهيم صاحب الزاوية بلحيته الطويلة الشقراء و بُنيته النحيلة و جلبابه الأبيض و مسبحته الطويلة جداً يجلس في زاوية الغرفة، بالقرب من نافذة صغيرة غير مرتفعة مخصصة له و هو جالس على الطراحة “فرشة القعدة” ليستلم من زوجته أو أحد أفراد أسرته الشاي الساخن الممتلئ بالسكر، و عندما يتعب أيّاً من الأولاد الموحِّدين يسحبه الشيخ لطرفه ليناوله كأس الشاي كي يعيد له بعض الطاقة التي تمكنه من الوقوف والاستمرار مجدداً بمواصلة الدوشة. وصلت لمرحلة كان لا بد منها أن أبدأ التدخل للتأثير على أبي و أن أدعوه للصلاة و الصيام و الإيمان، و لكل ما يمكن أن يجنبه النار التي ستبعده عني، و لم أجد طريقه للقيام بذلك سوى أنه و بتأثير الهلوسات التي تركت أثرها زاوية الخالدي عليّ، بأن أكتب رسالة من الوحي جبرين لوالدي كي يدعوه للصلاة و الصيام و الإيمان، و غيرها من أصول الدعوة التي حشى بها مدرس الدين في دماغي المميز بالذكاء و القدرة على الحفظ، و ربما الإنزلاق نحو الجنون في أسئلة الدين و مصير الحياة ذلك كله مع طفل لم يتجاوز الحادية عشر من عمره بعد، حيث كان ذلك عام 1968، وضعت الرسالة تحت الوسادة التي ينام عليها والدي ذلك لأنه كان يضع نظارته الطبية قبل النوم تحت الوسادة، ويلبسها صباحاً و بالتالي سيجد مع النظارة الرسالة الجبرينية و يقرأها.
صحوت باكراً لأتابع المشهد الهستيري الذي صممته، و فعلاً نجحت خطتي و فور أن صحي والدي ومد يده ليأخذ نظارته وجد ورقة أثارت اهتمامه ففتحها و بدأ يقرأ بها، بدوت أظهر وكأنني غير مهتم و لكنني أترقب ماذا سيفعل وكيف ستكون ردة فعله، أنهي قراءة الرسالة و على غير عادته كان هادئاً ولم ينبس ببنت شفه، و نظر إلي وكأن شيئاً لم يحدث.
في المساء و في موعد خروجي للزاوية ؛ سألني: أين ذاهب، أجبت للصلاة، فوقف و أعطاني مصلية وقال: اشتريت لك هذه السجادة للصلاة، و هي جامعك و زاويتك ولا خروج للجامع ولا لزاوية الخالدي بعد اليوم، يبدو أن والدي حصل على هذه النصيحة كما علمت فيما بعد من قريب لعائلتنا هو الأستاذ عبد الله زقوت أبو سامي الملقب بالجاروشة لأنه هو أو والده و ربما كلاهما كانا كثيراً الكلام، و لكنه مربي تربوي و شيوعي متنور و هكذا نصيحة لشكل السلوك هي فعلاً ما كان يتطلبه الأمر لاحتواء سلوكي الذي بات مقلقاً، صلاة لا اعتراض و لكن هلوسة زوايا فليس مسموحاً.
مرت أيام و كان لابد من التعايش مع الأمر و لكن أيضاً لا بد من التقدم خطوة ثانية لدعوة أبي للصلاة طالما لم يعترض عليها، ذلك كله حصل بعد هزيمة عام 1967، و التي جعلت مرة ثانية فلسطين التاريخية مفتوحة على بعضها بعد أن مزقتها وأغلقت أجزائها نكبة الـ48 حيث سيطرت إسرائيل على معظم البلد و أبقت قطاع غزة لإدارته من مصر و الضفة ليضمها الأردن، فتوجهت لوالدي و قلت له بدنا نروح نصلي في المسجد الأقصى، لم يعترض لأنه و كما يبدو هكذا كانت النصيحة و كأنه أيضاً كان يتحسب لردة فعل سيئة قد تأخذني لمسارات غير سوية، فعلاً في أول يوم جمعة ركبنا سيارة أجرة عبر مدينة الخليل التي نزلنا بها و كنت قد شعرت بالعطش و طلبت من والدي أنني بحاجة لشربة ماء، فتوجه لصاحب دكان و طلب منه كأس ماء، فطلب صاحب الدكان ثمن كأس الماء، و كانت هذه أول مرة في حياتي أعرف أن الماء التي نأخذها من طرمبة المخيم تباع في هذه المدينة الكبيرة.
ومن هناك ركبنا سيارة أجرة ثانية للقدس، و دخلنا ساحة الأقصى، و كان علينا أن نتحضر للوضوء من أجل الدخول للمسجد و الصلاة.
والدي لم يكن قد صلى في حياته و هو أيضاً لا يعرف قواعد الوضوء، نظر إليّ كاتماً غيظه و قام بالضوء كما أفعل و لكن بنرفزة صامته، دخلنا المسجد و كنت قصير القامة و والدي معروف بطوله ، فلم أكن أصل لطول رجله، إلا أن هذا لم يمنعني من تصويب وضع يد والدي اليمنى فوق اليسرى، و ليس كما وضعها هو بأن كانت اليسرى فوق اليمني ربما لأنه “شدفاوي” أي يكتب بيده اليسرى.
صوبت وضع يديه و أكملنا الصلاة و لم أعرف هل قرأ والدي سورة الفاتحة أم لا، عدنا لمخيم الشاطئ و كانت رحلة طويلة لمسار جديد ينتظرني.
يتبع..


ملاحظة: هناك أحداث تفصيلة و وصف للشخصيات و المكان لايتسع و لا يحتمل نشرها على الفيس بوك سأقوم بالتوسع التفصيلي و الأمين. عندما اصل للنهاية و صياغة النص النهائي للنشر الورقي ، حتي تستحق السردية أنها بوح المخيم .

المصدر: صفحة الكاتب الفلسطيني جمال زقوت على الفيسبوك