3 ديسمبر، 2024
نابلس - فلسطين
عودة لطفولة المخيم (1)
المدونة

عودة لطفولة المخيم (1)

الكاتب: جمال زقوت

عزلة البيت، و انفجار سؤال الحياة و الخلاص، و قابلية الانسان للتكيف مع نمط حياة خالٍ من الرفاهية و البذخ و سلوكيات تدمير الجسد كالتدخين و الشيشة، و الوجبات السريعة و غير الصحية ، سيكون له عظيم الأثر على نظرة الانسان لنفسه و محيطه و بيئته و عادات حياته اليومية و الأهم مستقبله ، وكيف ستكون علاقات الناس و معاييرها التي للتو تسيدت فيها قيم فاسدة نشأت في كثير من الأحيان على النفاق و المصلحة و الأنانية في زمن ضاعت فيه معايير و مرجعية الأخلاق و الإخلاص كمكون انساني حمى البشرية لعقود و ربما قرون مديدة سابقة.
و كانت الأديان في جانب جوهري منها تكريس مثل هذه القيم الأخلاقية و التعامل الانساني لجوهرها بأن ” الدين معاملة “، و الذي للأسف تم دوسه أمام شعوذة جهلة الأديان. هذه الحالة دفعت بذاكرتي أكثر من خمسون عاما للخلف، و تحديداً للعام 1962، حيث دخلت الصف الأول الابتدائي في مدرسة الشاطئ الابتدائية، كنت الطفل الرابع لوالدتي و والدي بعد بشير الأكبر و منير و سمير، ترافق دخولي المدرسة مع كابوسين كادا أن يعصفا بحياتي و مستقبل عقلي و صحتي، الأول مرض الازمة الصدرية و ما صاحبه من ضعف للنمو الجسدي، و لكن بتميز عقلي مدهش و إقبال على المدرسة منقطع النظير و متميز عن أشقائي الثلاثة الذين سبقوني، هذان الأمران أي المرض و التميز المدرسي جعلاني أحظى بمعاملة متميزة من جميع الاهل، ظلت الأزمة الصدرية تطارد حياتي و يتابعها طبيبين مصريين عاشا في غزة كأبنائها و باتا فلسطينيان و أكثر هما د. كمال عبد الله و د. جان أرتين الذي توفي قبل أقل من عامين في غزة و ما زال ابنائه يعيشون في كنفها و معاناة أهلها و قد تعافيت على يد جهودهما بعد ست سنوات صعبة.
أما المأساة الثانية الموازية، فهي تركيز أحد المدرسين على محاولة اصطيادي لفكر التطرف الديني ومحاولاته خلق شرخ مع أهلي الذين تميزوا في المخيم كامتداد لأصدقاء الخلية الشيوعية التي تأسست في أسدود بإشراف مباشر من إميل توما وتوفيق طوبي مع عمي عبد الله زقوت أبو نجم ومحمد البطراوي أبو خالد وغيرهما من رجال البلدة الذين كانوا قد حظوا بتعليم إعدادي او ثانوي، ذلك قبل النكبة ومنذ تأسيس عصبة التحرر. كان هذا الأستاذ الذي ليس له صلة بالتربية وأصولها وأخلاقها يتحدث لي يومياً عن قشور الدين و الجنة و النار و يثير الرعب في ّ حتى البكاء، ببساطة لأنه كان يصور لي بشعوذته أن أهلي و أقاربي سيكونون جميعاً في جهنم و أنا فقط من سينجو و يفوز بالجنة، و كان يعتقد انه يفرحني بهذه الشعوذة، في وقت أن هذا الأمر كان، بالإضافة لخوفي على عذاب أهلي في جهنم، بمثابة تعذيب نفسي خطير و يسبب لي الرعب حد البكاء، بأنني سأنفصل عن أهلي الذين يحبونني، بل و بسبب المرض و التفوق المدرسي كانوا يميزونني. أمي رحمها الله كانت دوماً تواجه الفقر والحاجة لتربية أولادها بالأمل وتصنعه وتربيه من كل سبب، فكانت مثلاً تعزو لقدومي للحياة عام 1957، بان الله فتح لهم أبواب رزق بعد سنوات عجاف منذ نكبة عام 48، هذا الرز ق الذي مكن والدتي و والدي من الاهتمام بتعليمنا، هو أنهما بدءا يعملان كممرضين شعبيين في حارتنا الفقيرة في مخيم الشاطئ، كما بدأت والدتي تغسل في البيت حاجيات عيادة الوكالة في المخيم مقابل عائد مالي محدود يساعد الأسرة التي تزداد بمعدل فرداً كل عامين على مواجهة أعباء و شظف حياة اللجوء.

ملاحظة: ارتأينا مشاركة سلسلة بوح المخيم للكاتب جمال زقوت لما توفره من إطلالة على جيل ما بعد نكبة عام 1948 بمختلف أصعدتها، وهذه النصوص نشرت عبر صفحته الشخصية على موقع ” فيس بوك” وتعبر عن منظوره تجاه الأحداث.

المصدر: صفحة الكاتب الفلسطيني جمال زقوت على الفيسبوك