من المخيم/نور حميدان
لم تكن هذه الحكاية تشبه باقي الحكايات التي سمعتها أو عملتُ عليها في المخيمات.
في ذلك الصباح، عندما وصلت إلى منزل أم رامي أبو سريس في مخيم بلاطة للاجئيين، نادتني من الداخل بصوتٍ هادئ دفعتُ الباب ببطء، ودخلت. للوهلة الأولى عندما التقيتها، شعرت بشيء مختلفٍ لا أستطيع وصفه… كأنني أمام امرأةٍ اختصرت في ملامحها وجع جيلٍ كامل من اللاجئين.
جلست أمامها، تحيط بها صور أبنائها وأشقائها الراحلين. كان البيت بسيطًا، لكنه مزدحم بالذكريات.حدثتني عن حياتها. نشأت في عائلةٍ تضم ستة شباب وستّ فتيات، لكنها فقدت والدها بعد إصابته بالزهايمر، ووالدتها التي رحلت حزنًا على ابنها الأسير، ثم شقيقها وشقيقتها.
كبرت أم رامي على مسؤوليةٍ مبكرة، فقد توفي زوجها وهي في عمرٍ صغير، فربّت أبناءها وحدها، وعملت بصمتٍ لأجلهم. لم تكن مجرد أمٍّ لأسرة، بل كانت أمًّا للمخيم كله؛ ناشطة نسوية معروفة، لا تتردد في خدمة مخيمها ومجتمعها، لكنها توقفت حين خذلها الكثير ممن حولها. لكن الفاجعة الكبرى لم تكن هنا بل كانت حين فقدت ابنها رامي.
تقول أم رامي: “الله يرضى عليه رامي… تفرّغ عند الرئيس، وكان دايمًا يحكيلي: لما أتوظّف عند الرئيس، رح أعطيكي كل طلعة 100 دولار، واشتريلك ثوب جديد.
أنا اشتغلت وتعبت وربّيت أولادي، ولما قلت خليني أفتح عالدنيا شوي… الله فقدني بابني”.
أما شقيقها رائد أبو سريس، الملقب بالفضائي، أسيرًا في سجون الاحتلال محكومًا بالسجن المؤبد. كانت تنتظر يوم الإفراج عنه كما ينتظر القلب عودة نبضه. جهزت أثوابًا فلسطينية مطرّزة، وقالت لي: “كنت بدي ألبسهم واحد ورا الثاني يوم يطلع، أفرح فيه قدّ العمر اللي راح”. لكنّ الاحتلال اقتحم بيتهم ليلة صفقة التبادل الأخيرة، وهددهم بمنع أيّ مظهرٍ للفرح.
وتضيف: “ما رضيت أروح عند أهلي، ضليت ببيتي…
اللي بيفرحلك من قلبه بيفرحلك، إحنا مش بدنا الناس تفرح، بدنا أخوي يطلع من السجن.”
وفي صباح اليوم المنتظر، طرقت ابنتها الباب وأبلغتها الخبر الصادم: رائد لن يخرج.تصف لي أم رامي تلك اللحظة وكأنها ما زالت تراها بعينيها: “ما عرفت شو أعمل… طلعت عَ المقبرة، حكيت مع أبوي وأمي وإخوتي، قلتلهم ما ضل حدا منكم يستقبل الفضائي.
تغادر بيت أم رامي وأنت تيقن تماماً أن حكايتها، تعيد تعريف القوة على طريقتها.


