16 سبتمبر، 2024
نابلس - فلسطين
حياة عادية قبل النكبة
المدونة

حياة عادية قبل النكبة

لم يكتبوا حكاياتهم، سنكتبها نحن

شنبر العروس من جنين

خطب حمدان جد أمي من جهة أمها إحدى فتيات البلد لابنه محمود، فوافق والد الفتاة، ولكنه اشترط شرطاً غير متوقع، وهو أن يُشترى شنبر العروس* من جنين فقط، ولم يقبل أبداً أن يكون من أي من المدن القريبة مثل المجدل أو الخليل أو غزة أو الرملة، أو حتى من يافا التي كان ينطلق إليها باص يمر بالبلد الساعة الثامنة صباح كل يوم، ويحمل في طريقة ركاباً من القرى المجاورة.

ركب أبو محمود حماره وانطلق من قريته عراق المنشية* قاصداً جنين، غاب عدة أيام وعاد بالشنبر المطلوب، فأُقيم العرس وانتقل محمود مع عروسه إلى غرفته الجديدة التي سقفت بخشب صقيل مستورد كانوا يحضرونه من يافا، وخصص محمود المحب للقراءة ركناً منها لرفوف كتبه التي كان شديد الشغف بها ودائم المطالعة فيها.

بطيخ في حقل الذرة

كان أبو محمود يستعين في موسم “قطاعة الذرة”* بمعاونين لجني المحصول، وهو عمل شاق يحتاج إلى رجال متمرسين على قطع العرانيس الناضجة بالشناشر الحادة، ووضعها بسرعة ورشاقة في المخالي المعلقة على عواتقهم، ولأن موسم الذرة يأتي عادة في عز القيظ بعد أواسط تموز، فقد كان أبو محمود يحضر لهؤلاء الرجال بطيخاً يأكلونه فيبتردون وينتعشون، ثم ينهضون لمواصلة عملهم الشاق الذي يزيد من مشقته زغب الذرة الذي يلتصق كالشوك بأجسادهم المتعرّقة.

في مواسم الذرة التالية كانت أقدام الرجال تتعثر، أثناء انهماكهم في جني العرانيس، بثمار بطيخ ضخمة وناضجة نبتت من بذور بطيخ أكلوه في موسم الحصاد الماضي، فيتوقفون عن العمل ويجلسون متحلقين للاستمتاع بحلاوتها وبرودتها.

صلاة أخيرة

أثناء حصار عراق المنشية الذي استمر تسعة أشهر، انقطعت المؤن عن الجيش المصري المحاصر فيما عرف بجيب الفالوجة، فتكفل أهل البلد بإطعام الجيش، كانت النساء يطحن القمح على الرحى بعد تدمير اليهود لبابور الطحين الوحيد الذي كان يملكه الشيخ محمود أبو محيسن، ويخبزن في الطوابين، وذبح الأهالي أبقارهم وأغنامهم لهذا الغرض، بل هدموا جزءاً من بيوتهم لاستخدام خشب السقوف وقودا تحت القدور.

عاد حمدان في أحد الأيام إلى بيته قبل المغرب، فوجد جنودا يهدمون غرفة ابنه محمود لاستخراج خشب السقف لغرض إشعاله تحت القدور، فأصابه غمّ شديد وأيقن أن الأمور آيلة للنهاية.

 فرش سجادته لصلاة المغرب، وسجد ولم ينهض، صلى عليه صديقه الأقرب جدي أحمد، ولكنه لم يمكث بعده طويلاً، فقد استشهد في بيته بعد يومين أو ثلاثة.

سيدي أحمد

هجم اليهود من الجنوب من جهة الفالوجة في يناير 1949 بقوة كبيرة معززة بالآليات، واحتلوا ثلثي البلد، وجمعوا الرجال والنساء في حارة الطيطة تمهيداً لإعدامهم.

 طلبت شمس جبر، المعروفة بقوة شخصيتها وصلابة عزيمتها، من النساء أن يسودن وجوههن بفحم المواقد حتى لا يقعن في أيدي اليهود.

وجّه الجنود البنادق إلى صدور الأهالي، فأيقن الناس بالنهاية، ولكن حين ضغطوا على الزناد، وبما يشبه المعجزة، لم تنطلق أي رصاصة من البندقية الأولى، ولا من الثانية، ولا من الثالثة.

ظنّ الناس أن معجزة خارقة قد حدثت، ولكن هناك من يرجع السبب في ذلك إلى إن اليهود كانوا يتوكؤون على بنادقهم في السهل الموحل ليلة الهجوم التي فيها أمطرت السماء مطراً غزيراً استمر طوال الليل، مما جعل بعض البنادق ” تبرّد”، ثم سرعان ما شنّ الجيش المصري والأهالي هجوماً قوياً مضاداً، فدحروهم، وأوقعوا فيهم مقتلة عظيمة بلغت حوالي أربعمئة قتيل* دفنهم أهل البلد في قبر جماعي كبير بإشراف قوات الهدنة الدولية.

بعد انتهاء الهجوم والقضاء عليه، ذهب عمي محمود، الذي كان محارباً متطوعاً في الجيش المصري، وبعض المتطوعين الآخرين، ذكر منهم شخصاً من دار زقوت، لتفقد بيوتهم، فوجد جدي أحمد والأستاذ محمد أبو زغيريت، الذي كان مدرساً في مدرسة عراق المنشية الأميرية، مقتوليْن على أكياس القمح في بيت جدي، وفي بيت مجاور وجدوا كهلاً آخر قتيلاً.

جدي الذي كان في الستين من عمره، أعدمه اليهود من مسافة صفر بقذيفة مضادة للآليات تطلق بالبندقية، كان صدره مفتوحاً بجرح كبير وقد تفتت حبات مسبحته والتصقت بلحمه الممزق، وجد عمي أنهم عاثوا في البيت فساداً؛ فقد اتخذوه أثناء انسحابهم عيادة ميدانية مؤقتة لإسعاف جرحاهم، ومزقوا الملابس واستعملوها للتضميد، وفتحوا ثغرات في جدرانه لبنادقهم ومدافعهم الرشاشة، وحطموا جرار العسل الذي جناه جدي من خلاياه ، كان العسل المسفوح يرتفع على أرضية الغرفة مقدار إصبع.

حفر عمي قبراً لجدي في حاكورة البيت، وخلع الباب وجعله غطاء للقبر، ثم أهال التراب، وهذا ما فعلوه أيضاً مع الشهيدين الآخرين، ثلاثة بيوت متجاورة فقدت رجالها وأبوابها في لحظة واحدة، كانت النكبة الوشيكة تفغر فاها لابتلاع الناس وقذفهم إلى المجهول.


• الشنبر: غطاء رأس للعروس من قماش أسود رقيق وله أهداب ملونة كثيرة.

• تقع عراق المنشية على بعد 48 كم شمالي شرق غزة و32 كم شمالي غرب الخليل، وقد سقطت وهجر الأهالي نهائياً في 26 إبريل عام 1949، أي بعد أحد عشر شهراً من النكبة الشاملة.

• ذكر لي والدي رحمه الله مرة أن الأهالي كانوا يزرعون أربعة أنواع مختلفة من الذرة البيضاء، وكل نوع له اسم مختلف ومواسم مخصوصة، أكثرها شيوعاً يجنى في تموز، زراعة الذرة تسمى تخطيطاً.

• هذا العدد ذكره جمال عبد الناصر في خطبه ويومياته، أما الأهالي فيقولون إن خسائر اليهود في هذه المعركة كانت أربعمئة وخمسين قتيلاً، المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس يذكر استناداً إلى الأرشيف العسكري أنها كانت 98 قتيلا فقط، وقد جاء عبد الناصر مع قوات الهدنة الدولية عام 1950 ليدلهم على هذا المدفن الجماعي، وظلّ والدي يعتقد أن عبد الناصر أخذ معه رفات جدي من ضمن رفات شهداء الجيش المصري المئة والخمسين الذي سقطوا على تراب عراق المنشية والفالوجة.

المصدر: إبراهيم أبوحشّاش

تحرير: ولاء أبوبكر