بقلم: د. هيا فريج
لم تكن الهدنةُ القصيرةُ سوى فرصةٍ لِلَمْلَمَة شتاتِ النفوس التي أنهكتْها حربٌ لم تبقِ لهم حبيبًا ولا رفيقاً، ولم تذرْ لهم بيتًا، ولا سقيفةً، ولا مأوىً، تَمَكنت جموعُ النازحين فيها من الوصولِ إلى بقايا مساكنِهم؛ يُفتشونَ فيها عن هياكلَ عظميةٍ لِشهدائِهم، الذينَ عَرَفوهم من كسورٍ في أسنانهم، ومن ملابسِهم الرثّة، وممّا تَبَقّى من أمتِعَتِهم، ومن خاتمِ زواجِهم المُعَلّق في أصابعهم حبًّا ووفاءً.
عاد فيها المشرَّدون من الشمال والجنوب، حاملينَ بحرقةٍ وصايا أحبّتهم، يقودُهُم الشوقُ إلى بيوتِهِم، يقبّلونَ ترابها، ويذرفون دموع الحسرةِ على أطلالها، لا أحدَ يشعرُ بلوعَتِهم، فما جرَبَ الإنسانُ في كل حروبِه فَقْدَ الأحبَّة بالجُمْلَة، وتبخُّرَ أجسادِهم، وتعذُّرَ العثورِ على جثث لدفنها، وما عَرَفوا تدميرَ المنازلِ بقذائفِ الميركافا، ولا البراميلِ المتفجِّرة، ولا الصواريخِ الانشطاريَّةِ الموَجَّهَةِ نحوَ الأجسادِ البشريّة.
ولأنَّ غزَّةَ مدينةٌ مسكونةٌ بالباحثينَ عن الحياةِ فوقَ جثثِ الأمواتِ، مارَسَ الغزيّ مَهامَه الشاقَّة، وأزاحَ أكوام الحجارة عن قلبِه قبل مسكنِه، وأشاحَ بنظَرِه عن ذكرياتِه وطيوفِ أحبابه، الذين عَمَروا المكان، وغادروا في غفلةٍ من الزمان، ثم فتَح عينيْه لينصبَ خيمتَه فوقَ الخراب، في محاولةٍ بائسةٍ لتحدي الطوفانِ الجارفِ الذي دمَّرَ واقعَهم، وحطَّمَ أحلامَهُم…
يعاندُ الغزيُّ أقدارَه التي خَطَّت الموتَ على جَبينِه، وعلّقَتِ الدمَ في رقبتِه، وَغَرَزت سيفَ الأحزانِ في قلبِه، وأورثتْهُ الحنينَ إلى كلِّ ما لا يمكنُ استرجاعُه…
يحاولُ تَطويعَ المُسْتَحيل؛ ليصيرَ ممكنًا، تُفْرَضُ عليه القيودُ، فيكسرُها، معلنًا عصيانَه الدائم، يُغالب القوى التي تسجِّل عليه قوائم الممنوعات، فيحوّلها إلى مباحٍ ومتاحٍ.
يُقْتَلُ مرَّةً فينهضُ مَرَّةً أخرى؛ ليتعجَّب قاتله كما يقول درويش: “هو أنت ثانيةً ألم أقتلك؟!” لا يعلمُ قَتَلَتُه أن مقتلَ الفلسطينيِّ لا يكونُ بتفوِّقِ السلاح، وتطوِّرِ التكنولوجيا، بل في أملِه الخدّاع الذي لا يجرُّ عليه سوى الخيبة، الأملُ ثعلبٌ راوغَ الحالمين بالراحة بعد المعركة، حتى انقضَّ على فرائسَ ثمينةٍ، تستحقُّ أن تُراق لأجلها دماءٌ، وتنقَضَ من أجلها مواثيق..
لم يلتقط الغزيّون أنفاسَهُم في الهدنة بعدُ حتى فاجأتْهُم الأغوالُ بأظافرها الطويلة، وأنيابِها الحادّة؛ لتنْهَشَ بساديّتِها المعتادَةِ أجسادَ المُنْهَكين جوعًا وقهرًا وحزنًا وألماً.
لم ننتَهِ بعدُ من طقوس البكاء، حتى تجدّدت مواسمُ النّحيب، وتفجَّرت ينابيعُ الدمعِ، وتساقطَ الهُطول من جديد، وتجهَّزَت القرابينُ للذبحِ، وصحَتْ في النفسِ أوجاعٌ أطفأتْها رغبةُ الإنسان الدائمةُ في النّجاة.
أيُّنا كان قد وطّدَ نَفْسَه لأن يَسْتقبِلَ تكرارَ كلّ هذه الصدمات؟ أينا كان قد هيَّأ نفسه لأن يقدّم كل هذه التضحيات؟ أيُّنا مستعدٌ الآنَ لأن يعيد التجارِبَ ذاتَها، من نزوحٍ، وفقدٍ، وعذابٍ، وجوعٍ، وخوفٍ؟!
لكنَّها الحروبُ، تقضمُ صدورَنا بنهَمٍ؛ لتعلمَنا أن نسعدَ بكل لحظةٍ نعيشُها مطمئنين، وأن نغتنمَ كل فرصةٍ، وأن نفرحَ بكلّ ما في الكونِ من سعادةٍ، وأن نمتنَّ لكل لقمةٍ نأكلها هانئين، وأن نشكرَ كل جهدٍ ينتشلُنا من كل بأسٍ، وأن نمدَّ أيدينا سلامًا للعالم من أرضٍ تحنُّ إلى سلامٍ عادلٍ يحفظُ لأبنائها حقوقهم.
الدكتورة هيا فريج كاتبة وباحثة فلسطينية من غزة.